لعل من أكثر الإطروحات السياسية إثارة للدهشة والشفقة، ما يدعيه المتنفذون عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، من أن البلاد قد شهدت تحولاً ديمقراطياً قبل عقدين من الزمان. وإذا بدا هذا الأمر، حلماً قريب المنال يوم سقط النظام البعثفاشي، واختفت مسالخه التي اعتاد أن يثرم بها معارضيه، وقنابل الغاز التي كان يخنق بها الآف الآمنين، وآلياته التي غطت أرض الوطن بالمقابر الجماعية، فإن شرعنة الاحتلال وما ارتكبه من جرائم، واعتماد المحاصصة القومية والطائفية نهجاً اُقيمت على ضوئه منظومة الحكم، كان كافياً لوأد الحلم، ولو إلى حين!
إن مقارنة فاحصة وسريعة بين الديمقراطية والاستبداد، ستكون كافية بإعتقادي، لكشف الحقائق وفضح التزييف. فالديمقراطية ببساطة لا تعني وجود أحزاب وإجراء انتخابات دورية والسماح بإصدار صحف وإطلاق محطات تلفزيونية فقط، بل هي عملية تنظيم سلمي للصراع بين المصالح الطبقية المتنافسة، بهدف تجنيب المجتمع مخاطر العنف. إنها عملية تاريخية تعكس قدرة القوى الفاعلة على بناء نظام للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية، وضمان حرية التعبير والمشاركة السياسية لجميع المواطنين بشكل متساوِ وبلا استثناء، واحترام مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات والدور التفاعلي للمؤسسات واستقلال القضاء. كما تعني تعزيز التمثيل النيابي، المعبر عن الناس، بمساهمات شعبية أخرى، كمنظمات مجتمع مدني فاعلة ومجالس محلية منتخبة وكالتظاهرات والحراكات الاحتجاجية وغيرها.
ووفق كل تجارب البشر، لن تكون الديمقراطية حقيقية في غياب القدرة على تأمين مساواة سياسية، يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية متكافئة، فالفصل بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية أمر في غاية الصعوبة، ويستدعي العمل الجاد لتقليص الفوارق الطبقية وتعميم قيم التسامح والتعاون واحترام المختلف، وتربية الاجيال عليها والحزم تجاه اي خرق لها. فهل ينطبق شيء من هذا على حالنا في ظل منظومة المحاصصة؟ّ!
قد لا أكون مغالياً إن قلت بأن الأعم الأغلب ممن يعانون من عذابات النظام القائم سيجيبون بالنفي على هذا التساؤل، مستندين إلى فشل المنظومة في منع استخدام العنف، المباشر أو غير المباشر، كأداة للتنافس السياسي، وما قمع الاحتجاجات الشعبية واغراق انتفاضة تشرين بدم نشطائها وبقاء السلاح المنفلت خارج إطار الدولة وضعف هيبة القانون والتجاوز عليه جهاراً نهارا وتقزيم المجتمع المدني والبناء التحاصصي لكل المؤسسات الضامنة للعدالة كمفوضية الانتخابات والمحكمة العليا، الاّ بعض الأمثلة على ذلك. ويؤكد هذا الإستدلال ايضاً، فشل المنظومة في ضمان المساواة السياسية بين المواطنين، حين تُمنع اية كفاءة من تبوء منصب ما، فقط بسبب انتمائها الديني او العرقي، فيما بات التكافؤ الاقتصادي مجرد مزحة سمجة، بوجود 11 مليون مواطن دون مستوى الفقر و7 ملايين مواطن بلا سكن لائق وافتقاد هؤلاء جميعاً لخدمات تعليمية وصحية وبلدية تليق بالبشر، مقابل 35 ملياردير و 16000 مليونير في البلاد.
كما لم يعّد الاستبداد بالضرورة نقيضاً مكشوفاً وصارخاً للأشكال الديمقراطية، لأنه إكتسب، ومن خبرة قرون في مواجهة الشعوب، مستويات واشكالاً وابعاداً مختلفة، فأغلب المستبدين اليوم يستندون إلى دستور ومؤسسات تشريعية “منتخبة”، ويتشدقون بمنجزاتهم الديمقراطية وتخلو سجونهم من اصحاب الرأي المخالف وتتعالى الانتقادات لهم في إعلام مدفوع الثمن بما سُرق من المال العام، لكنهم لا يحترمون القانون ولا ينصتون للشعب ولا يوزعون الصلاحيات بشكل جدي ولا يجدون لتجمعاتهم الحزبية قواعد حقيقية ليعّبروا عنها، فيما يحمون بسلاح شرعي وغير قانوني، سيطرة الطفيليين على الثروات الوطنية ويقاسمونهم اياها مقابل هذه الحماية. وهكذا تصبح “الديمقراطية” في ظلهم عملية تجميلية، لا تُصلح عادة ما يفسده الدهر!