في مثل هذه الأيام، قبل 89 سنة، أصدر فتية بواسل، نذروا أنفسهم لبناء مجتمع حرّ وعادل، أول صحيفة شيوعية في بلادنا، مقتحمين صعاباً لا حصر لها، تبدأ بسلطات متخلفة وبتمييز عرقي وديني وطبقي، ولا تنتهي بحرمان شامل للناس وبأمية أبجدية وثقافية، حجبت النور عنهم.
ولم تقتصر تلك البسالة على مأثرة الريادة ولا على التحدي، بل وأيضاً في جعل جريدتهم «كفاح الشعب» جديدة في كل شيء، فهي لأول مرة لسان حال حزب طبقي ثوري، الحزب الشيوعي العراقي، وأداته لتعزيز وحدته التنظيمية والسياسية، وهي أول من ينطق بلسان العمال والفلاحين، وأول من رفع شعارات الوطنية والتحديث، طرد المستعمرين ومصادرة ما نهبوه وضمان حرية الشعب وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتركيز السلطة في أيدي العمال والكادحين وضمان الحقوق العادلة للشعب الكردي وباقي المكونات واطلاق الثورة الاجتماعية التي تحرر الناس من كل أشكال الخضوع.
كما كانت، وعلى الرغم منها، أول صحيفة سرية، منجاةً لها ولقرائها من حملات قمع، اتسمت بالكثير من القسوة والبطش، واصطبغت بسببها الصفحات بدماء الكتّاب والطبّاعين والموزعين مراراً، دون أن تسقط الراية، التي سلّمتها «كفاح الشعب» إلى «الشرارة» ومنها إلى «القاعدة» ثم لـ» اتحاد الشعب» ومنها إلى «طريق الشعب»، التي ما تزال تقاتل بالكلمة حتى يبزغ فجر مجتمع حرّ، ينعم فيه العراقيون جميعاً بالعدل والخير والحرية والسعادة.
كما تبنت هذه الصحافة، إضافة إلى المهام السياسية والتنظيمية، واجب الدفاع عن إستقلال الوطن وسيادته وعن الحرية كقيمة إنسانية لا يمكن أن تتحقق بدونها أية تنمية أو تقدم، وعن الديمقراطية بشقيها المترابطين السياسي والإجتماعي، وعن حقوق المرأة في المساواة التامة مع الرجل، مشكّلة قوة تغيير ثقافية وأخلاقية اتسعت لهموم الجميع وعرضت معالجات علمية لتلك الهموم، وقاتلت كل أشكال التخلف، ودافعت عن الهوية الوطنية الجامعة، وتناغمت مع كل قيم الخير والسلام والعدالة في العالم.
وفي مسار الجمع بين الخطاب التعبوي والخطاب التنويري، اعتمدت صحافتنا سياسة تتسق مع المستوى الثقافي للناس، ولم تكتف بخلق أجيال من القراء وتنمية وعيهم بقيم الحرية، بل ودعمت أجيالاً من المبدعين في مختلف الميادين، حتى أرتبطت بها بشكل ما الأغلبية الساحقة من الشعراء والأدباء والفنانين والعلماء.
ولذا كان بديهياً أن تكون صحافتنا في صميم الطليعة المقاتلة بالكلمة، في بيوت الطين التي احتضنت المطابع السرية، وفي القرى المثقلة بالجوع، في الأهوار النابضة بالثورة رغم حرمانها المستديم، وفي مفارز الأنصار التي جابت جبال كردستان تدافع عن كرامة الوطن وحرية الشعب وراية الحزب، وفي الخطاب المستتر الذي كتب يوماً هنا، وتم تسريبه من بين أنياب الدكتاتور، الذي كان كنابليون لا يخشى هدير المدافع كخشيته من صرير القلم.
كما كان بديهياً أن تثري صحافتنا دوماً تقليد الجماعية في العمل، بعيداً عن الأنساق المغلقة وارتكازاً إلى التجديد والتقدم التقني في عالم الإعلام، وإلى البقاء نافذة مشرعة للهواء الطلق، للحركة والتنوع في إطار الوحدة، ولجرأة المساهمة في التحديث، بكل صوره وإلى آخر مدياته، إضافة إلى التفاعل مع آراء المختلف، ودراسة الإخفاقات بموضوعية وممارسة النقد الذاتي تجاهها ووضع حلول للمشاكل.
ولأنها لم تستسلم يوماً، ولأن دبابات الطغاة التي تمكنت غالباً من احتلال كل مكان، لم تستطع أن تحتل أغانينا، كما قال نيرودا، بقيت صحافتنا آثيرة على القلب، ولنا معها حكاية عشق لا ينضب، تتسلل بخفة لثنايا الوعي وتغرس فيه زهوراً للمحبة والصدق والجمال، عصّية على الذبول، وكل عيد والصحافة الشيوعية بخير.