اكتسبت النجاحات التي حققتها قوى اليسار ويسار الوسط في الانتخابات التي جرت في أوربا وأمريكا اللاتينية، اهتماماً كبيراً، لأنها مثلت للبعض مفاجأة، في ظل ما شهدته هذه المجتمعات ولسنوات عديدة من نمو مضطرد لقوى اليمين والمتطرف منه بشكل خاص، حتى بات صعباً على أكثر المراقبين تفاؤلاً أن يتوقع تغّير الرأي العام بهذه السرعة.
ويعزو بعض اليساريين، هذه الإنتصارات لتطور ملحوظ في الجمع بين أربعة عوامل مختلفة، البرنامج الواضح والمعرفة الدقيقة لتأثير الظروف الجيوسياسية والخبرة في إدارة التحالفات والتعامل السليم مع الأنظمة الإنتخابية، مؤكدين على إن عدم تحقيق اليسار لنتائج ايجابية في أية انتخابات، لا يمثل فشلاً، الاّ إذا لم يتمّكن هذا اليسار من ممارسة النقد والتأمل، واستخلاص دروس التجربة وهضمها، واصلاح منظومته الانتخابية، والتصرف بشكل مختلف مع ما كان سائداً قبل خسارته، وعدم التقاعس عن التواجد في الشوارع والميادين، وتطوير صلاته بالناخبين ولاسيما الشباب منهم، مع الحذر من التفريط بالجوهر اليساري لبرامجه، بعد أن اثبتت التجارب عدم مسؤولية هذا الجوهر عن التراجعات، كما يروج البعض، في مسعى لدفع اليسار نحو التخلي عن خنادقه الطبقية.
وللتدليل على ذلك يستشهد هؤلاء بجملة من التجارب منها فشل حزب العمال البريطاني بقيادة اليساري المعروف جيريمي كوربين من الوصول الى السلطة في الانتخابات السابقة، وتمكن نفس الحزب بقيادة ستارمر من الحكم هذه المرة، رغم حصوله على 3 ملايين صوت اقل، وذلك بسبب فشل كوربين في الجمع بين العوامل الأربعة المذكورة، وليس بسبب برامجه «المتطرفة» كما أشيع، لأنها ببساطة لم تكن مختلفة عن برنامج الجبهة الشعبية الفرنسية، التي حققت به انتصارها غير المتوقع.
كما يرى هؤلاء بأن المهم ليس فهم الخصوم وفضح برامجهم المعادية لمصالح الناس وفي مقدمتهم الشغيلة فحسب، بل وبدرجة أكبر ادراك اليسار للأولويات، والتي تقف على رأسها اليوم مهمة حماية الحريات والمكتسبات الاجتماعية، بإعتبارها الهدف الأول لنيران اليمين المتطرف، ورسم التعاون مع الحلفاء المحتملين على ضوئها، واعتماد المرونة اللازمة لتعبئتهم لإنجاز هذه المهمة. ويحذر الكثيرون من حدود المرونة التي يجب أن تُعرّف على ضوء الحاجة لتحقيق توازن دقيق بين التنازلات والمكاسب، وذلك كي لا يفقد اليسار النفوذ بين صفوف الشغيلة والكادحين، مما سيجعلها ارضاً خصبة لليمين واليمين المتطرف، فالعملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق، إن لم تتمسك بمصالح قاعدتها الاجتماعية.
كما يؤكد البعض على أن من دروس النجاحات الأخيرة، ضرورة أن تكون الشعارات مفهومة ليس في صياغاتها فقط، بل في الخطط التي ستّنفذ للوصول اليها، بحيث يمكن للناخبين أن يتبنوا الشعارات على ضوء قناعتهم بتلك الخطط وليس بالعواطف المباشرة التي تدغدغها هذه الشعارات.
ورغم عدم وجود اوهام لدى اليسار من امكانية تخطي الإصلاحيين للضفة التي يقفون عليها منذ عقود، فإن التجارب أظهرت بأن هناك كتلاً صغيرة وشخصيات ذات كاريزما متميزة، تُعّد اقرب للوسط منها الى اليسار، يمكنها تبنى برامج جذرية، إذا ما أحسن الأخير إدارة التحالف معها، والتركيز على حل مشاكل محددة، تحقق ردود فعل إيجابية أكبر، مع «تجميد» منظم لقضايا الخلاف، بإساليب دقيقة. ويضرب هؤلاء مثالاً في برنامج جبهة فرنسا الشعبية، التي اولت كامل الإهتمام لقضايا الإجور والعمر التقاعدي وخصخصة السكك الحديدية، وصمتت مؤقتاً عما يفجر الخلاف في صفوفها كنسب رفع الضرائب على الأغنياء، مقابل ايقاف زحف اليمين واليمين المتطرف، الذي كان انتصاره سيحّول فرنسا الى أول نظام شمولي بأوربا القرن الحادي والعشرين!