لا تختلف جميع أطياف اليسار اليوم، على المنافع التي تجنيها البشرية عموماً وجبهة اليسار بشكل خاص، من وسائل التواصل الاجتماعي، سواء في إشاعة حرية الكلام والتعبير ومواجهة الرقابة، أو في توفير فرص الوصول إلى مجموعة متنوعة من المعارف والأفكار، أو في تيسير مهمة تعبئة الأفراد من ذوي الإتجاهات المتماثلة على الصعيدين الوطني والدولي، إضافة لمساهمتها في تعزيز الشفافية وتقليص قدرة الحكومات والمتنفذين على إخفاء الحقائق.
ولكن، ورغم ذلك كله، تبقى لهذه الوسائل جوانب سلبية خطيرة، بحيث لا يمكن اعتمادها إعلاماً ديمقراطياً تشاركياً، بسبب ما تعطيه من دور أعلى للفرد على حساب الجماعة، وللصورة على حساب النص، وللوهم على حساب الحقيقة. وتعّد قدرتها على إنقاذ بعض سياسيي الصدفة من المواجهة المباشرة مع الجمهور والتعتيم على ما يفضح أكاذيبهم كلغة الجسد والهندام وغيرها، من أكثر تأثيراتها السلبية على الوعي العام، خاصة بعدما بات هؤلاء السياسيون يمارسون خداعهم عبر رسائل قصيرة "حكيمة" أو أفلام ممنتجة بيد خبيرة، وإرسالها بتكرار ممل للناس.
كما وفرت هذه الوسائل فرصة للفاشلين كي يضللوا الجمهور بالحسابات الإفتراضية مجهولة الأب، والتي تقوم بنشر معلومات غير كاملة أو كاذبة، تجعل من الوصول إلى الحقيقة أمراً صعباً، وتساهم في إيهام البعض بصحة ما يتلقاه من أخبارمزيفة، لاسيما حين تتوافق تلك المعلومات مع قناعاته المسبقة.
وفي المجتمعات التي تعاني من نسب مرتفعة في الأمية الأبجدية والثقافية أو التي تعاني من استقطابات إثنية أو طائفية حادة، يكون التأثير السلبي لهذه الوسائل خطيراً، ليس فقط جراء تدني القدرة على التمييز بين المعلومات الحقيقية والكاذبة، بل لقدرتها على تحويل المتلقي نفسه لمتطوع في ترويج الزيف.
ويبدو عراقنا من أكثر البلدان ابتلاءً بهذه المشكلة، فما تضج به وسائل التواصل من تضليل وآراء مثيرة للقرف أو الشفقة، ينذر بتقويض أي آمال بحدوث تحول ديمقراطي ويساهم في تنمية الإستبداد المتلفع بأردية مختلفة ويعزز من نفوذ الأقلية الفاسدة المتحكمة، ويبرر امتهان المؤسسات والتلاعب بالقانون وبالانتخابات ويجّمل وجه الممارسات البشعة التي ترافق ذلك. ولعل في الحملات التي عشناها مؤخراً، سواء فيما يتعلق بقضايا السرقات أو محاولات وأد قانون الأحوال الشخصية أو التغطية على الفشل في إخراج المحتلين من أمريكان وأتراك وغيرهم، مصداقا لذلك.
وبديهي أن يكمن الخروج من هذا المأزق، في الجمع بين الاستفادة القصوى من إيجابيات هذه الوسائل وبين مواجهة ما فيها من خطابات التجهيل والكراهية والتخوين والتكفير، على أن لا يقتصر ذلك على دحض أصحاب هذا الزيف فقط بل ويتعداه لتحصين المتلقين والعبور بهم من حالة تجاهل هذا الخطاب أو التماهي مع مفرداته، إلى تبني الفعل المناهض له، ودعم الأفكار والجهات التي تتعرض للتشوية والضغط.
وبغية إنجاز ذلك، لا بد من تطوير نمط التفكير النقدي، وتشجيع التدقيق بأي معلومات تدعو للكراهية والتعصب أو تمارس هي بذاتها ذلك، والتركيز على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية الأساسية في البحث عن الحقيقة، واعتماد التقارير والإحصائيات الموثوق بها في تقييم المعلومات، إضافة إلى التمتع بالجرأة وبالمعلومات المقنعة الكافية وتجنب الصراخ والسباب، لأنه لا يتناسب على الإطلاق مع سمو الهدف.
وأخيراً، يبقى مهماً أن أشير إلى أهمية التمييز بين مواجهة التزييف وبين صراع الأفكار وحوارها في إطار ديمقراطي وسلمي، يحترم حرية التعبير ويتقن فن الإصغاء للأخرين، دون أن ننسى التعرف على السم المداف بالعسل، والذي يقدم من قبل بعضِ ممن يدّعون الحرص على نقاوة الفكرة ويعتمرون خوذ حراسها المخلصين.