يتقد ومنذ التسعينيات، جدال متواصل حول مفهوم الطبقات والصراع فيما بينها، مرة في مسعى سلبي يراد منه التعتيم على الأمر في وعي الناس، ومرة في مسعى إيجابي يراد منه تجديد مفهوم الطبقة، بحيث لا يقتصر على العلاقة بملكية وسائل الإنتاج، بل يمتد ليشمل التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتداخل مع تلك الملكية.
ولعل الحدود بين البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة وتأثيراتها العملية، كانت من أبرز القضايا التي لم يتوقف النقاش حولها، سواء عند الأطياف اليسارية التي بقيت مرتابة من الطبيعة المتذبذبة لهذه الفئة، أو لدى من بات يرى لها دوراً رئيسياً في التغيير الجذري.
تشير الدفاتر الماركسية إلى أن البرجوازي الصغير هو من يملك وسائل الانتاج دون أن يستغل العمل المأجور، ناشطاً في بيئة وسطية، قد ينتقل منها في ظل التطور ليصبح رأسمالياً، أو قد تُلحق به الرأسمالية الإحتكارية الخراب فيتحول على الغالب إلى أجير، ولذا فهو ذو طبيعة مزدوجة، يتعاطف بسببها مع البروليتاريا والبرجوازية معاً، ولا يمكنه أن يُظهر اي ثبات في الصراع الطبقي.
غير أن بعض الأطياف اليسارية، ترى بأن البرجوازية الصغيرة لم تغرق تدريجياً في البروليتاريا، كما توقع ماركس، بل تمكنت بسبب من مرونتها و من خلال استفادتها من الثورة المعلوماتية ومن مكتسبات دولة الرفاه كالتعليم المجاني والقروض المّيسرة، من النمو والتبلور في صيغ ذات خواص مختلفة عن البرجوازية الصغيرة التقليدية، من أهمها المؤهلات العلمية العالية والخبرات المتميزة في التقنية الحديثة والملكية الشخصية الجيدة كالسكن والسيارات الخاصة وبيوت الإستجمام وغيرها.
ورغم عدم امتلاكها لأية وسيلة انتاج وخضوعها لشروط العمل المأجور، بقيت هذه الفئة "الجديدة" غريبة عن الصفات البروليتارية، بل وفضّلت التميّز عنها، ورفضت التنظيم والإندماج في طبقة المستغَلين، وبقيت ترنو إلى صعود السلم الطبقي، إلى حيث توجد البرجوازية، لا من خلال تراكم رأس المال بل من خلال استغلال قدراتها التقنية ومؤهلاتها العلمية، أو ما يمكن تسميته برأس المال المعرفي.
إلّا أن رأسمالها هذا سرعان ما تبدد وصار حلمها سراباً، فبسبب التغيرات الهيكيلية في الاقتصاد الرأسمالي وتراجع التصنيع واتساع اقتصاد الخدمات واشتداد قسوة الاستغلال وتراجع الليبرالية الجديدة عن مكتسبات دولة الرفاه، ارتفعت سدود منيعة أمام "ارتقاء" هذه الفئة للسلم الطبقي، وحوصرت بالبطالة وبإلغاء أو بتقليص مجانية التعليم وبتشديد شروط القروض السكنية ورفع الفوائد عليها وتقليل المساعدات الاجتماعية، مما ألقى بها في أتُون الصراع المباشر مع الرأسمالية المعولمة، وبات أفرادها العمود الفقري لقوى "اليسار الجديد". ولما كان استغناء الرأسمالية عن هؤلاء أمرا مستحيلا في ظل الثورة الصناعية الرابعة، حمل الكثير منهم معاول لحفر قبر الرأسمالية، مقتربين من البروليتاريا، سياسياً وثقافياً، وهو ما قد يستدعي شكلاً متطوراً للتحالف معهم من أجل التغيير الجذري.
وإذا كان الأمر مختلفاً في التفاصيل بين الدول الصناعية وبين بلداننا التابعة، فلعله يتقارب في الجوهر ويستدعي البحث في مواقع الكوادر المتعلمة والطلبة ومختلف صنوف التقنيين ضمن القاعدة الاجتماعية لليسار، خاصة إذا ما انتبهنا إلى ما يمتلكه هؤلاء من قدرات تعبوية مباشرة أو رقمية ومن مرونة على تجاوز الانقسامات التقليدية، وأيضاً إذا ما تذكرنا الدور المتميز الذي لعبوه في انتفاضات شعوبنا، رداً على غياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعلى قيام الاستبداد والفساد والأوليغارشية بوأد أحلامهم في حياة مرفهة، دون أن ننسى بأن مشاكل رفضهم التنظيم والانضباط والبرمجة قد ساهم في نجاح العدو بإجهاض حراكاتهم الاحتجاجية، رغم بسالتها وسعتها.