على الرغم من الخلل في توازن القوى بينه وبين قوى المحاصصة، يتبنى اليسار أساليب النضال السلمي، البرلمانية والشعبية، ضد السياسات التي أوقعت البلاد في أزمة لا حدود لفظاعتها، معتمداً على الطاقات الثورية الكامنة في العراقيين، وعلى العديد من الحقوق السياسية في الدستور، وعلى عزلة تلك القوى عن الشعب، وتباين مواقف اطرافها من قواعد الديمقراطية.
وفي خضم ذلك، يتابع اليسار الدور الذي يلعبه تعميم الزبائنية والنفعية والشحن الطائفي والأثني، في التعتيم على وعي بعض انصار وناخبي هذه القوى، ويسعى لفضح التناقض بين المصالح الطبقية لها ومصالح الملايين من الكادحين، من العمال والفلاحين والمهمشين وبعض الفئات الوسطى، كي تتمكن الأخيرة من أن تُبصر الحقيقة وتنخرط في النضال من أجل تأمين حقوقها العادلة. ولا يرفض اليسار مسبقاً حدوث تقارب آني بين مصلحة ما لهذه الجماهير وبين متبنى ما لبعض من هذه القوى، دون أن ينسى توضيح طبيعة واسباب هذا التقارب ويحدد مآلاته حين تفترق المصالح الطبقية للطرفين فيما بعد.
ولذا لا يعاني اليسار في خضم هذا التدافع السياسي، الذي يمثل جوهر الديمقراطية، من أي تناقض بين مشروعه السياسي وواقع الصراع، هذا التناقض الذي غالباً ما تقع فيه قوى المحاصصة، لاسيما بين شعاراتها المنتقاة بعناية عن الحريات والعدالة، وبين تطبيقاتها العملية التي إتسمت بالمزيد من التمييز بين العراقيين، وبالعجز عن تنويع الاقتصاد وتخليصه من طابعه الريعي، وخلق فرص عمل في القطاعات الإنتاجية، تقلص من نسب البطالة وتزيد من الدخل القومي، وبالفشل سواءً بحماية الحقوق وهيبة القانون، أو بتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين أو في القضاء على الفساد.
وقد ظهر هذا التناقض جلياً للعراقيين، كلما فشلت التوافقات في حل الإنسدادات السياسية أو ستر عورة الفاسدين أو عندما يشوب شرعية الانتخابات، جدل كبير، جراء عدم القناعة بحيادية منظميها وبقانونها وآليات إجرائها وعدم اتساقها مع الدستور وعزوف الأغلبية عن المشاركة فيها أو الإعتراف بنتائجها، مما كان يدفع بالمنظومة لتأجيج الإستقطابات الأثنية والطائفية ولتبني القمع وممارسة التضليل والترهيب والسعي لشراء الذمم والإختباء وراء واجهات حزبية "مدنية"، مستفيدة من النسب المرتفعة للأمية ومن السلاح المنفلت ومن التخادم مع مراكز دولية واقليمية، ومن المال العام الذي يمّول الفضائيات والأبواق والجيوش الإلكترونية.
ولعل من أخطر هذه الممارسات، التي باتت تتكرر بسرعة مؤخراً، بعد إن إختفت مع سقوط الطاغية، قيام البعض بتنصيب نفسه ناطقاً بأسم السماء، وسعيه لتحصين قراراته وخططه السياسية من النقد واتهام منتقديها بالتجروء على المقدس، وارتداء قبعات الطغاة المصونين غير المسؤولين، والطعن علناً في وطنية المعارضين وسمعتهم وتكفيرهم والتفتيش في الضمائر عن معتقداتهم وإيماناتهم.
غير أن من أكثر ما يبقى يبعث على التفاؤل في هذه العتمة، ثقة العراقيين بإحترام الشيوعيين وكل اليسارين، للدين والمتدنيين ولحرية المعتقد، واستعدادهم للدفاع عنها، وإدراكهم بأن خطورة نهج التكفير والتخوين والقمع، لا تكمن في اعادة البلاد ثانية الى ما عاشته من كوارث فحسب، بل وفي إذلال الناس وإرغامهم على الصمت تجاه قضاياهم الحياتية كبناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، التي تصون الحريات وتؤمن الخدمات الأساسية وتعيد بناء الاقتصاد. ولهذا علت أصوات العراقيين، بما فيهم بعض الحاكمين الحريصين على مستقبل مزدهر، مدينة بشدة هذا النهج في التعامل مع المعارضين، ذوي السياسات والأراء واساليب الكفاح المنسجمة مع الدستور، ومطالبة بالتصدي لهذه الأخطاء، وإدانة وعزل أي سياسي، يتوهم "عصمة" ما لبرامجه وخططه، قبل أن ينهار بيتنا على رؤوس الجميع.