اخر الاخبار

بادئ ذي بدء يمكننا التأكيد بأنه لا يمكن الوصول إلى مقاربة سياسية تتكهن بمستقل السودان في ضوء تطورات الأزمة التي تفجرت عسكرياً على نحو دام مؤسف منذ أكثر من شهر، وما زالت متواصلة حتى الساعة، دون التذكير بسلسلة الانقلابات العسكرية التي اُبتلي بها الشعب السوداني،  بدءاً بالمحاولة الانقلابية الفاشلة 1957، أي بعد عام واحد فقط من الاستقلال ، ومروراً بانقلاب الجنرال إبراهيم عبود 1958، فانقلاب جعفر نميري 1969، فانقلاب هاشم العطا اليساري عام 1971 الذي نجح لمدة ثلاثة أيام فقط، ثم اُحبط بتواطؤ ليبي مصري، ووجد فيه نميري ضالته لتنفيذ تصفيات دموية بحق قيادات من خيرة الحزب الشيوعي، ومن أبرزهم مؤسس الحزب الشهيد عبد الخالق، محجوب، والقائد النقابي العمالي الفذ الشهيد الشفيع الشيخ، وغيرها من سلسلة الانقلابات اللاحقة الفاشلة، وصولا إلى انقلاب عمر البشير 1989 والذي أستمر أكثر من 30 عاماً والذي أطاحته الثورة الشعبية التي اندلعت أواخر 2018، لكن وريثاه  في الجيش والدعم السريع (القطبان العسكريان عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ، ومحمد حمدان دقلو قائد قوات التدخل السريع) وكلاهما من مخلفات النظام الفاشي السابق لعمر البشير، نكثا بتعهدات التسوية مع ممثلي الثورة الشعبية القطبين وصولا لانفجار الصراع العسكري  على السلطة بين الرجلين، وهو الصراع الذي ما فتئنا نتابع فصوله المؤلمة، حيث تدور رحى معاركه في المدن والضواحي والقرى، وكلاهما يراهن على سحق الآخر واجباره  على الاستسلام  ليستفرد هو وحده بانقلابه .

ومع أن الانقلابات السودانية تتشابه في تكرارها بالانقلابات في بعض الجمهوريات العربية، إلا أن ما يحدث في السودان بين مشروعي انقلابيين هو الأعنف والأخطر في تاريخ الانقلابات السودانية والعربية، ليس بالنظر لأحداثه الدامية التي تعصف بالبلاد -شعباً ودولة- فحسب، بل والنتائج الخطيرة التي ستظل البلاد تعاني منها لفترة طويلة، مما تضع علامات استفهام على المستقبل المجهول الغامض الذي ينتظر السودان دولةً وشعباً.

من المفيد هنا الرجوع إلى واحدة من الدراسات التي تناولت بالتحليل ظاهرة الانقلابات العسكرية العربية، وفد أعدها الباحث الأنثروبولوجي اللبناني الراحل فؤاد إسحاق خوري وصدرت 1990 عن دار الساقي، غداة انقلاب الجناح العسكري للإخوان المسلمين بقيادة الجنرال عمر البشير تحت عنوان” العسكر والحكم في البلدان العربية”، فمما جاء فيها حول البلدان العربية التي عرفت ظاهرة الانقلابات: “… وطالما أن الجيش مؤلف من عدة فئات واثنيات متنوعة، فهو بالتالي يلعب أدواراً سياسية متنوعة. وطالما أنه لا يقوم على أساس القواعد الديمقراطية. فمن الصعب توقع إنجازات ديمقراطية منه. فالانقلاب العسكري، وكحدث فردي لا يأتي عن طريق مجموعة كبيرة من الضباط إنما عن طريق شلة صغيرة من الضباط”. (ص 78) ويضيف في موضع آخر من الدراسة حول الوضع الداخلي في المؤسسات العسكرية “ … أن دوائر النفوذ ضمن المؤسسة العسكرية تُبنى لا على أساس الأداء إنما على أساس القرابة والزواج والأصل الإثني والعائلي”. ورغم مرور أكثر من 30 عاماً على صدور الدراسة، إلا أن الاستنتاجين المذكورين مازالا يصحان في تفسير انقلاب عمر البشير “الإخواني”، وما تمخض عنه من تداعيات حركية شعبية، برز خلالها صراع بين قيادتي الجيش والدعم السريع (البرهان وحميدتي) على السلطة، كما يفسر أيضا جانبا مهما رئيسيا في ظاهرة الانقلابات العسكرية، وصولاً إلى الانقلاب الأخير.

وإذ لم تفد كل مناشدات ومبادرات الدول العربية والجامعة العربية المتكررة، فضلا عن مبادرات الأمم المتحدة  والمنظمات الدولية المعنية بالإغاثة لوقف قوري لإطلاق النار من قِبل كلا الطرفين، تخفيفاً على الأقل من حدة الكارثة والمحنة المأساوية التي تأخذ بخناق شعبهما، حيث تزداد أعداد القتلى والجرحى من المدنيين بالآلاف، عدا عن عشرات ألوف النازحين الفارين، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تطحن أكبر شريحة من الشعب تتضور جوعاً جراء الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها ، فضلاً عن ازدياد أعداد الجرحى والمرضى التي فاضت بهم المستشفيات لعدم قدرتها استيعابهم، وانعدام المستلزمات الطبية والعلاجية، فإن ذلك كله ليبعث حقاً على التشاؤم والغموض حول المستقبل الذي ينتظر السودان دولةً وشعباً  جراء هذه الحرب الداخلية الخطيرة المدمرة .

وإذا كانت الانقلابات العربية تتوسل شعارات تبرر بها أمام الشعب انقضاضها على السلطة بالدبابات، كمكافحة الفساد،  وتحسين أحوال المواطنين، أو نصرة القضية الفلسطينية  واتهام النظام المنقلب عليه بخيانتها ، فإن المتصارعين على السلطة دون مبالاة بالكارثة التي تحل بشعبهما فوق الكوارث التي جناها من نظام البشير الذي جاء بهما على مدى ثلاثة عقود ونيف، إنما يتعرى مشروع كل منهما الانقلابي من ورقة التوت في العجز عن تبرير هذا الأمعان  المدمر الذي أرجع السودان عقوداً إلى الخلف أمام تفرج المجتمع الدولي ولا مبالاة النظام الإقليمي العربي، وعلى رأسه دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك  بغية اضعاف السودان إلى أدنى حد والاستئثار بعدئذ على أسهم استثمارات الإعمار حيث ستظل إرادة أي حكم جديد بعدئذ، إذا ما جاء كان على شاكلة الأنظمة الدكتاتورية السابقة، أسيراً للقوى الخارجية من عربية ودولية غربية!

عرض مقالات: