اخر الاخبار

تناولت عشائي متأخرا، نصف نفر من كص أبي يونان اللذيذ، وقفلت عائدا إلى (مشتمل) قديم في شارع النضال الذي أقطن فيه. الساعة كانت قد تجاوزت الحادية عشرة ليلا. قبل المشتمل بأمتار، عند رأس شارع فرعي، كانت سيارة تقف في العتمة وأنوارها الثانوية ترمش بانتظام. عندما اقتربت منها اندفع باتجاهي من مكان في الظلمة رجلان. طلب أحدهما هويتي، سلط عليها حزمة صغيرة من (تورج) كان بيده، ثم أمسك بذراعي وهو يقول تفضل معنا. قاومت قليلا فجاء رجل آخر كان في السيارة، وأحاط بي الثلاثة وهم يرددون لا تخف سنأخذك لساعة فقط. عليك أن تجيب على بعض الأسئلة، ثم نعيدك إلى البيت. لم ينتظروا ردي، وضعوا على عيني عصابة سوداء وقادوني إلى السيارة. انطلقت بنا على الفور بسرعة جنونية. ظلت تدور قرابة الساعة في طرق مجهولة، ثم أبطأت في مكان كان على الرغم من تأخر الوقت مزدحما بالناس. كانت أحاديثهم تتناهى إلي. فتحت بوابة حديد ثقيلة سمعت صريرها المعدني الحاد والمؤذي، دخلت السيارة بخفة إلى مكان يشبه المرآب، وعلا صرير البوابة ثانية وهي تنطبق ليبدد ما تبقى عندي من تماسك وهدوء. قادوني بعدها عبر سلالم، وممرات، بدت طويلة جدا. كنت اتسمع أصوات مكائن غامضة، وصراخ بشري يقشعر له البدن. كانوا يطلبون مني الانحناء أثناء السير، أو الميل ناحية اليسار، او الخلف لئلا أصاب. شعرت أنني في ورشة تعذيب ميكانيكة، او لعله معمل لإعادة تدوير البشر في قوالب، تنتج ملايين النسخ المتماثلة حد التطابق. ربما لديهم ملف خاص بحالة كل مواطن، يؤشرون فيه على استمارة بيانات، الأفكار والآراء والذائقة والمزاج، وفي ضوئها يقررون من التالي. دفعوا بي في النهاية  إلى مكان منخفض عن الأرض بثلاث درجات، تدحرجت لأجد نفسي وسط بركة صغيرة من مياه آسنة، تنبعثت منها روائح فظة، ثقيلة وفاسدة. مزيج من العفونة والنتانة والتفسخ. جاءني صوت أحدهم: إياك أن تحاول رفع العصابة، أنت تحت رقابة الكاميرات، وكل نأمة تصدر عنك مسجلة لدينا. ثم أغلقوا الباب، سمعت طقات المفتاح وهو يدور، وذهبوا. كان كل عضو في جسدي يرتعش من الخوف. عبثا ذهبت محاولاتي في السيطرة على رعبي. بين فينة وأخرى كانت تأتيني صرخات رجال يعذبون. ومن حولي كنت في لحظات الهدوء أنصت إلى دبيب حشرات أو كائنات مجهولة. كان بعضها يلتصق بي، فاشعر بالقرف من لزوجة ملمسها، وأبعدها عني، لكنها تعاود  الالتصاق بي في كل مرة. تذكرت قصص ادغار ألن بو. فكرت ربما كان مصمم هذا المكان متأثرا بتلك المخيلات المريضة لضروب التعذيب المبتكرة في سجون القرون الوسطى. لم يكن في وسعي التفكير بشكل منطقي في ما يحدث لي. صحيح أنني كنت حريصا على أن يكون لي رأيي الخاص في بعض المسائل العامة، لكنني لم أكن معارضا على نحو يستدعي معاملتي بهذه الكيفية المرعبة. لعلني كنت من وجهة نظر النظام بحاجة إلى التعقيم من بعض الأفكار والفايروسات المعدية، أو التدوير مثل اية مادة تالفة لكي أعود مرة أخرى مستحقا وجديرا بالحياة. كم من الوقت مضى علي وأنا على هذي الحال..؟ لا أدري تماما، بيد ان عصفورا مبكرا جاء لزيارتي، عصفورا صديقا استطاع اختراق جدران السجن وبنادق السجانين، عصفورا شجاعا وقف بالقرب من نافذة سجني الرهيب، وأطلق من أجلي غناءه الجميل. كان يزقزق بقوة، وبنغمات متعددة تتسلق الصباح متصاعدة مثل شمس تموزية لاهبة، أو تنساب هادئة على مخاوفي مثل نسمة صبا باردة. كان غناؤه يتساقط أحيانا على ارتعاشاتي ناعما شفافا مثل قطرات ندى، او يتغلغل في عطونة الهواء الثقيل مثل خيوط عطر رازقي صغيرة، او ينزلق في ظلمة العصابات السود على عيوني مثل شهاب مضيء. ما الذي فعلته بي زقزة ذلك العصفور..؟ كيف جعلت في لحظة واحدة رعشاتي تهدأ، وروعي يسكن، وفي داخلي يولد إحساس جديد..؟ أي سحر في لمسته أيقظت في نفسي كل هذا القدر المفاجيء من التماسك والشجاعة..؟ وكم من الحياة بوسع تلك الزقزقة أن تنتج..؟ وكيف استطاعت هزيمة شيطان الخنوع لحبسي وأن توقد في داخلي روحا مقاومة..؟ ومن يأبه لزقزقة عصفور في الأيام العادية..؟ لكن تلك الزقزقة حملت لي وقتها كل الأشياء التي أحبها، رائحة أبخرة شاي الصباح، والخبز الحار، ونكهة لبن الغنم، ووجوه أمي وأبي وإخوتي والأحبة والأصدقاء، وشجرة التوت في بيتنا بأغصانها المتشابكة وظلالها الكثيفة وعصافيرها الصاخبة، وحلاوة توتها وهي الحلاوة الأعذب على الإطلاق، ربما لأنها ارتبطت بطفولتي. في بيتنا كانت التوتة قد جعلت الهواء، حتى الهواء مخضرا، والعصافير كانت تعابثه على الدوام، تحركه بأجنحتها الصغيرة، وترسله إلينا هبات ناعمة من نسيم لذيذ يلامس وجوهنا. أنزلت العصابة السوداء قليلا لأستكشف مكاني. كان جزءاً من سرداب، بمعنى غير عميق مثل السراديب العادية، لكن جدرانه كلها كانت تنضح بالمياه الثقيلة، وفي أعلاه ثمة نافذة صغيرة، أكبر قليلا من كوة،  يبدو أنها تطل على طريق عام. كانت تصلني عبرها جلبة السيارات ونتف من كلمات وأحاديث المارة. بحثت عن كاميرا مفترضة أو مكان لكاميرا فلم أجد. أيقنت أن كل ما كنت اسمعه في الليل كان يصدر على الأكثر من جهاز تسجيل لترويعي، وتحطيم إرادتي. وأنهم أصروا على بقاء (العصابة) على عيني لكي لا اكتشف لعبتهم. نهضت من مكاني، كان في استطاعتي الوصول إلى النافذة، شعرت أن أحدا ما كان يمشي في الخارج تحتها تماما، وان ما يفصلني عن العالم ليس سوى هذا الزجاج الهش. دبت في جسدي موجة تحد، شعرت أن الحرية والحياة ممكنتان بعد، وأنهما تنتظراني هناك، في الجهة الأخرى من النافذة، وتنادياني. وقفت على رؤوس أصابعي مادا عنقي إلى أقصى مداه. كانت هناك شجرة كالبتوس كبيرة، وعلى غصن قريب متدل منها كان ذلك العصفور الصديق واقفا، ينظر إلي في قلق بعيونه الجميلة المدورة، ويرسل زقزقاته بصوت أعلى من ذي قبل. شعرت أنه يريد إيصال رسالة ما. أومأت له برأسي علامة الفهم. ظل يحرك رأسه إلى الأعلى والأسفل، مشيرا بمنقاره الصغير ناحية الأفق، ثم أطلق جناحيه مبتعدا في السماء الفسيحة..

عرض مقالات: