اخر الاخبار

ليست الذاكرة مجرد احتفاظ أو بعث للماضي، وإنما تقتضي تجديدا خلاقا له، وتحويلا مبدعا لأحداثه. وفي هذا السياق، لا تهتم رواية (ذاكرة الحجر) لأنفال الجبوري بالبحث في التاريخ، بقدر ما تسعى إلى تلمس طريقة مغايرة في كتابة النص الروائي، محاولة الوصول إلى المهم والجوهري فيه: المشاعر الإنسانية، وخبراتها الأليمة. لا وجود للماضي، إذ ابتلع النص الروائي، مضمونه الوجودي والتاريخي. فالماضي في ذاكرة النص، ماض مختلف تماما، هو ماض متسام ساعدت رؤية الكاتبة الإبداعية على إدخاله في لحظة الكتابة.

في النص لا شيء يمضي، والتاريخ مجموعة خبرات وحكايات وأوهام، نعيد خلقها خلقا إبداعيا جديدا في نص جديد هو حاضر أبدي لا ينتهي ولا يفوت. في المستوى الأنطولوجي لا يوجد، بحسب برديائف، ماض أو حاضر، وإنما هناك حاضر يخلق بلا انقطاع،   في (ذاكرة حجر) اسهم النص الروائي في الإفادة من معطيات ومرجعيات متنوعة، وفنون كثيرة، ولا سيما فن الكاميرا، لما تنطوي عليه من قابليات تصويرية. فالاهتمام بالصورة يمثل أحد المعطيات التي حققت الإثراء في هذا النص الروائي. إنها تجتهد في شق طريق سينمائي لسحب القاريء نحو منطقة الحدث، ولحظته المتوارية، بكيفية تجعل دور المؤلفة شبيها إلى حد كبير بدور المخرج. مستفيدة من آليات القراءة، في تحديد وتوجيه الرؤية. لعل أبرز متجليات هذه الآليات تتمثل في صناعة المشهد. فالكاتبة تسعى من خلال السرد إلى رسم صورة للمكان، وما يطرأ عليه من متغيرات، أشبه بلقطات كاميرا سينمائية متحركة، متوغلة في التفاصيل، متغلغلة في العلامات، وما يمكن أن تنتجه من دلالات، متوقفة غالبا عند الوجوه في لقطات زوم، وصولا إلى أعمق الهواجس، وأبعد الأغوار، وأنأى المخاوف والأسرار المضطرمة في العالم الجواني لشخصيات الرواية. ولكي تكتمل الصورة السينمائية، فهي غالبا ما تبحث عن صوت ما، تعثر عليه المؤلفة هنا في الأغاني القديمة، المنتمية إلى تلك الحقب. وهي محاولة جريئة في توظيف الأغنيات في نص روائي جديد. يمكن على وفق تقنيات صناعة السينما أن تمثل تلك الأغنيات نوعا من  موسيقا تصويرية للمشاهد والأحداث الجارية في سياق النص.

إن إفتتاح كل فصل من فصول الرواية بوثيقة، جزء من سياسة التوجيه القرائي إلى نص الحادثة، ونقل فعل الحدث التاريخي، ومصادرته لصالح لحظة كتابة النص، ولحظة القراءة. وهي تأتي غالبا في سياق عملية استكمال صناعة المشهد، وتأكيد وظيفة المخرج التي اضطلعت بها الكاتبة.

السرد في الرواية يعود إلى ذاكرة حجر آشوري، مرصوص في جدار بيت مهيب، يرمز إلى الوطن، والمقاربة الجميلة في الرواية، أنها لم تفترض وقوع الأحداث في سياق زمني متسلسل، ومنظم تشبها بدرس التاريخ. لكنها تحرض على القراءة بآلية عمل ذاكرة القاريء. المتجاوزة لمثل هذه التتابعات، والساعية إلى ترتيب الأحداث عن طريق مشاعرها الذاتية، ومزاجها الشخصي في النظر إليها، وقراءتها. تتألف الرواية من ثمانية مشاهد تلخص حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث، ثمان لحظات ذات مقدرة عالية على الإيحاء والتكثيف والإختزال. لحظة اليهودي. لحظة الباشا. لحظة الضابط. لحظة الجندي المجهول. لحظة الحصار. لحظة الرسام. شيزوفرينيا. ثم صرخة حجر. والنهاية.

في روايتيها السابقتين تعاني الكاتبة من تسلط مشاعر الغربة على شخصياتها وأجوائها. روايتها الأولى (زمن منسي) الصادرة عن دار الفارابي تدور أحداثها في مدينة متخيلة تشبه أي مدينة شرق أوسطية نعرفها، وروايتها الثانية (ملاذي) الصادرة عن دار الفارابي ايضا، تدور أحداثها في مدينة عمّان. أما (ذاكرة حجر) روايتها الثالثة الصادرة مؤخرا عن دار سنا في الموصل، ودار سطور في بغداد، فهي تستعيد، إنتماءها الوطني العراقي، بمد جذورها مثل توتة قوية في تربة تاريخه الموجع، وأحداثه العاصفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* روائي وناقد عراقي ، صدرت له مؤخراً رواية بعنوان

عرض مقالات: