اخر الاخبار

أمسكتُهُ برفق، شعرتُ بدفء جسده الصغير، يتدفق إلى يدي. نبض دمه السريع، وضربات قلبه المرتفعة. كان بعض ريشه الأسود البراق واللامع، يتخلل أصابعي، وهو يحرك جناحيه القويين محاولا الخلاص. ثمة قلق في عيونه المدورة. ومنقاره الضارب للون الكاكاو بالحليب بدا طويلا أكثر من المعتاد، مقوسا قليلا في نهايته، وجميلا. لما تطلع إلى العمارات الشاهقة في شارع الأطباء، وهي تغلق وجه السماء، موطنه الممتد بلا حدود، وأسلاك الكهرباء تقطع في خطوط متوازية ما تبقى منها، أحسستُ بجناحه الأيسر يتململ بحثا عن فرصة للإفلات. شعرت في تلك اللحظة أنني لا أمسك بيدي زرزورا بل حلما من أحلام السماء. ربما آلمه رؤية سمائه، صغيرة إلى هذا الحد، فاقدة بهاءها، وغموضها، وأسرارها، أسيرة كتل الاسمنت الهائلة، لا تتسع لخطفة من طيرانه السريع. كنتُ واقفا على مقربة من قفص بائع زرارزير. مرت بجواري امرأة محجبة، أخبرتني همسا كأنها تكشف سرا خطيرا: إنه طائر ناطق، قبل أن تطلقه، وشوشه بأعمق أمنياتك. قلتُ لها: لدي أمنية واحدة، أن يحلق بعيدا عن هذه الأرض. رفعتُ ذراعي إلى أقصاها، كأني أخاف عليه من السقوط، ثم أفلتهُ. ضربت اجنحته المتوترة الهواء بقوة، واندفع بسرعة صاروخ في عمق السماء البعيدة. على مقربة من القفص، توقفت امرأتان مقبعتان. سألت الأكبر سنا البائع عن سعر الزرزور. “خمسمائة دينار”. “خمسمائة فقط”. نقدته ألف دينار. أخرج البائع من القفص طائرين. أمسكت كل امرأة منهما واحدا. تمنت الكبيرة أن يخفف الله عنها آلام مفاصلها. قالت: تعبت من مراجعة الأطباء. كل بلاطة  في هذا الرصيف تشهد لي، وتعرف وقع خطواتي. ولا شيء غير مراوغة الألم بالمسكنات. ثم في حركة خوف متشنجة، رمت طائرها بعيدا عنها في الهواء. أما الصغيرة فتمنت أن يحفظ الله حملها. هذه المرة الثالثة تحبل منذ زواجها، وفي الشهر الثاني يسقط الجنين. تضرعت أن يكون المولود إبنا، لتفرح به زوجها. حدقت في عيون الطائر، وعلى وجهها رفت ابتسامة أمل عذبة. أرخت قبضة يدها ببطء وردة تتفتح، وفاجأتها قوة الطائر الصغير، وهو ينزلق بخفة من بين أصابعها، ويتسلق الهواء. انضمت إليهن امرأة أخرى. تمنت أن يحمي الله زوجها الجندي، وأن يعيده إليها سالما. متى نتخلص من هذه الحروب..؟ متى نشعر بالأمان..؟. ثم نبرت بأمنيتها بصوت مسموع: لتنطفيء نيران الحروب في كل مكان. قبلت طائرها وأفلتته. طفل صغير جر أمه من عباءتها مشيرا إلى القفص. طالبا منها شراء واحد. قالت له أمه هذا طائر بري لا يعيش في البيوت، ولا يحب مزاح الأطفال. لكن لهفة الصغير أصْمت عن سماع توضيحات الأم. توقف بالقرب من القفص ضاربا الأرض بقدميه الناعمتين، دائرا حول نفسه، في حركة احتجاج بريئة، صارخا: مه. مه. مه. أُجبرت الأم على شراء أحد الزرازير. تلمس رأس الطائر وهو في يد أمه. ثم طلب أن يمسكه بيده. قالت له الأم يدك صغيرة لا تكفي. ولإرضاء عناده الطفلي، اضطرت الأم أن تضع الزرزور في يده. خبط الزرزور بقوة شاعرا بضعف قبضة الطفل. واطلق جناحيه بعيدا، مختفيا وراء العمارات. ارتفع صراخ الطفل في بكاء مرير. أين ذهب طيري..؟ أريده، أريد طيري. انحنت الأم إلى صغيرها، تحدثه بهمس خافت: ذهب إلى أولاده، إنهم ينتظرونه. وأنت ألا تشتاق إلى بابا..؟ تمنى أن ينهي تدريبه في الأردن سريعا، ليعود إلينا كما فعل هذا الطائر. لكن الطفل ظل في مكانه حرنا يبكي. شعر البائع بالتعاطف مع بكاء الطفل. مد يده في القفص، وأخرج زرزورا وقدمه للصغير: هذا هدية مني إليك، ولكن لا تدعه هذه المرة يفلت منك. أمسكه الطفل بكلتا يديه. ومضى فرحا إلى جانب أمه. قفص الزرازير وجمهرة النسوة، لفتا انتباه رجل خمسيني. كان قد تجاوز تلك النقطة. غير خط سيره فجأة، وعاد مقتربا من القفص. استعلم عن سعر الطائر. قال موجها كلامه للبائع: أمن اجل هذا المبلغ التافه، تصطادون هذه الطيور الجميلة. أوضح البائع أنه لا يصطاد. هو مجرد بائع، يشتري هذه الطيور من تجار جملة، ويبيعها. قال هناك عشرات الألوف من هذه الطيور. موضوعة في أقفاص كبيرة. إنها تجارة موسمية رائجة. أضاف الرجل الخمسيني: لا أظن أن ثمة في الحياة فرحة تعادل فرحة الإفراج. كنت يوما سجينا، وجربت قسوة الحبس ومذاق الحرية المدهش، إنها ولادة جديدة، شيء يقترب من مغادرة قبر، فرصة اخرى للعيش. تصور فقط نفسك مكان هذا الطائر. جرب ذلك مرة واحدة. هذه طيور سماوية طليقة الروح، لا أفراخ دجاج. وطلب منه الإفراج عن عشرة من الزرازير، دافعا من جيبه ثمن حريتهم. شعر البائع بكلمات الرجل تُحدث هزة في أعماقه. لم يخطر بباله يوما التفكير بهذه الطريقة. إنهم بالنسبة إليه مجرد طيور. سلعة يتداولوها من اجل الربح. أمعن التفكير في إشارة الرجل إلى الفرق بين الزرازير وأفراخ الدجاج. هل يمكن تصنيف الدجاج بأجنحته الصغيرة العاجزة عن التحليق ضمن الطيور..؟ الدجاج الغبي، الثقيل، المربى في حقول كبيرة، تفرخه بالملايين مفقسات صناعية، لا يحلم أبدا بالسماء، لا يعرفها، ولا ينتمي إليها، ولا يمتلك رشاقة كائناتها. هل يمكن عده بسبب الشكل فقط طائرا..؟ عند هذه النقطة، شعر بائع الزرازير، بتحول في إحساسه نحو الأشياء. فكر مليا بكلمات ذلك الرجل. كيف اثارت في نفسه هذا القدر من التساؤلات..؟ لماذا لم يتنبه الآخرون إلى المعاني التي اشار إليها..؟ لا بد أن ذلك الرجل من ذات الصنف، صنف الزرازير ذات الأجنحة القوية. هل يمكن القول أن بين البشر ثمة من يشبه الدجاج. يقنع بالعيش بين جدران قاعة، يأتيه فيها الغذاء والماء، ولا يرفع يوما نظره خارج الشريط الذي يحمل له العلف..؟ تملكه فجأة قدر كبير من الحب للزرازير. أخذ ينظر إليها بكيفية مختلفة مفعمة بالاحترام. لم يحدث له ذلك أبدا من قبل. تصور على وفق قول الرجل الخمسيني أن القفص نوع من السجن، وأنه مجرد سجان، يقايض بالمال حرية ضحاياه. داخلته بسبب ذلك مشاعر خزي. وأنه ربما الشرير الوحيد في هذا المكان. من الرصيف المقابل عبرت نهر الشارع امرأة أنيقة سافرة وانضمت إلى الحشد. تحف بها سمة من سمات الطير. خفيفة الوطء، سريعة، وإن كانت قد تجاوزت الخمسين وطفح شعرها بالشيب. أمسكت بواحد من الطيور. همست له بشيء ما، بدت كأنها على معرفة قديمة به، كان الزرزور يهز رأسه بضرب من الاستجابة، وأطلقته. طلبت طائرا آخر، قالت هذا لأمي في استراليا. وآخر لأختي في نيوزيلندة، لأخي في كاليفورنيا، وآخر وآخر عشرة طيور أطلقت لعائلتها المبعثرة تحت كل نجم. مع أمنية واحدة أن تعيد لم شملهم في بيتهم في عنكاوا. ازداد عدد النساء المتجمهرات حول القفص. وهن يدفعن له لتحرير الطيور، ويطلقن الأمنيات. في تلك الاثناء وقف رجل حزين صحبة امرأتين. استفسر عن الزرازير، وتشاور مع المرأتين. لبث جامدا في مكانه صامتا ومتصلبا. ثم سأل بائع الزرازير بطريقة مفاجئة: كم عدد الطيور في قفصك..؟ بحدود المئة. من أجل حرية أهلنا في الموصل، وسلامتهم، أطلقهم كلهم. كان صوته مبللا بشجن عميق. فيه حشرجة من حنين، وشروخ من وجع دفين. لم تقاوم المرأتان نبرة ذلك الصوت، اخرجتا مناديل الورق، ينشفن بها دموعهن. شعرت بقية النسوة بالتعاطف مع حزنهن، وشاركنهن بكاؤهن الصامت. الأشواق التي حررها الحزن، في تلك اللحظة، بعثت في هواء الشارع نفسا فردوسيا مريحا. فتح البائع أبواب القفص، ذكّره تدافع أجنحة الزرازير، وهي تغادر القفص بكلمات الرجل الخمسيني، ووقت أطبق أبواب القفص المفرغ، همس محدثا نفسه، هذا سجن آخر يغلق. في تلك اللحظة كانت عيون الأطفال الواسعة، واصابعهم النحيلة، تشير في دهشة إلى فسحة السماء الصغيرة، التي بدت بين كتل الاسمنت، مثل شاشة هائلة مضاءة، عاجة باجنحة الزرازير، وهي تشق بضرباتها القوية هواء ذلك المساء الثقيل، في طيران رشيق، متلاشية في زرقة السماء.

عرض مقالات: