انطلاقا من تجربة مجالس المحافظات وما قدمته، ما برح مواطنون يتساءلون عن دورها وما يمكن ان تقدمه في ظل هيمنة منظومة المحاصصة والفساد، وكونها لم تكن بعيدة عن هذه المنظومة.
صحيح ان هناك تقارير وثقت حالات فساد وتجاوز من جانب أعضاء سابقين في هذه المجالس، لكن الصحيح أيضا ان هناك أعضاء، على محدودية عددهم، كانوا أندادا لسلوك ومنهج التخادم المحاصصاتي، وقد وقفوا بثبات مدافعين عن دورها الحقيقي في الرقابة وصيانة المال العام وتقديم الخدمات للمواطنين، وعارضوا جعلها وسيلة من وسائل الحصول على السحت الحرام، واستغلال الموقع للمزيد من الهيمنة والنفوذ والامتيازات والعقود والأراضي.
ويتوجب هنا تأشير ان ما يثار بشأن مجالس المحافظات لا يختلف عما آلت اليه مؤسسات الدولة عموما، والتي لم تعد جميعها بمنأى عن اخطبوط الفساد. وتقارير هيئة النزاهة واخبارها، ومثلها ديوان الرقابة المالية، تبيّن ذلك بنحو لا لبس فيه، فيما تضيف اليها تقارير أخرى إعلامية واستقصائية مزيدا من التفاصيل عن التفنن في الاستحواذ عَلى المال العام والأراضي والعقارات.
وهذا بالضبط هو ما دفع مهمة مكافحة الفساد والتصدي له الى المقدمة، ويصر الوطنيون الخلص على ان الفساد لا يقتصر على ما خف وزنه، وان المكافحة لا بد ان تطال من يقف وراءه ومن يحميه، داعما قويا نافذا او متنفذا مسلحا، مؤكدين ان لا مكافحة جادة دون ان تكون شاملة وتطال الملفات جميعا، صغيرها وكبيرها، قديمها وحديثها، ومنبهين أيضا الى ان لا يغطي دخان الصوت العالي موبقات الفساد الجديدة.
لا اختلاف على ان الفساد ظاهرة غدت مؤسسة، لها من يحميها ويدافع عنها، وامتدت للأسف الى المجتمع، وهي لم تتوقف او تخف رغم بعض الإجراءات التي تقدم الحكومة عليها. فلم تصبح مكافحة الفساد حملة وطنية شاملة، وهنا للتخادم المحاصصاتي دوره، ونجد الانتقائية واضحة جلية، والا ما معنى ان تتم تبرئة متهم او تخفيف الاحكام عن آخر تحت ذرائع لا تقنع أحدا مثل حسن السلوك، او طمس معالم “سرقة القرن” والاكتفاء بالفتات، رغم ما يعلن عن تصميم لاسترجاع الأموال المنهوبة، فيما أبطال هذه الأفعال الشنيعة يصولون ويحولون، بل وتوفر الحماية لهم ولنشاطات مظللة محسوبة تدغدغ العواطف. والغريب ان يحصل ذلك على مرأى ومسمع من في المنطقة الخضراء.
نعم مجالس المحافظات أصابها هذا الداء، ولكن الاستدراك الواجب يتمثل في السؤال: هل تُترك مؤسسات الدولة للمزيد من النهب والسرقة والعبث من طرف قوى متنفذة، لا ترى الا مصالحها ونفوذها وسعيها لادامة ذلك بكل الوسائل؟
ان تغيير الحال ليس من المحال، ولكن هذا يوجب قبل كل شيء انطلاق انتفاضة شعبية عارمة لاسقاط “آني شعليّه”، والتحول الى الفعل الإيجابي وفرض إرادة التغيير الذي هو المرتجى والمعول عليه لإنقاذ البلد من سوء هو فيه، ويتوجب الادراك العميق لحقيقة ان هذا لن يتحقق الا عبر أفعال ومنجزات جماهيرية وشعبية واسعة.
ان وصول أصوات وطنية راسخة في توجهاتها وملتصقة بهموم المواطنين وحريصة على مصالح الشعب والوطن، الى مجالس المحافظات ولاحقا الى مجلس النواب، هو إضافة أخرى للجهد الجماهيري الضاغط والمعوّل عليه أساسا.
فالاصل في مجالس المحافظات انها مؤسسات دستورية تراقب عمل الحكومات المحلية واعضائها، وتسهر على حماية المال العام وضمان حسن استخدامه، وعدم انفراد المحافظ في تقرير مصير الأموال المخصصة لكل محافظة مستندا الى من يدعمه، وان تذهب الى مشاريع خدمية وانتاجية لعموم أبناء المحافظة المعنية.
ان تحقيق اختراقات هنا أصبح مطلوبا وضروريا، يستلزم مشاركة واسعة في الانتخابات القادمة، وابعاد الفاشلين والفاسدين والراكضين وراء الشهرة والمال والنفوذ.