عام ٢٠١٩ لم يكن مثل كل الأعوام التي مرت على بلدنا بعد ٢٠٠٣ وغداة الخلاص من اعتى دكتاتورية عرفها تاريخه الحديث. وهو سيبقى ذا طعم ومغزى خاصين ، نتذكره بفخر واعتزاز وتتناقل الأجيال رواياته وقصصه وبطولاته ومآثره وأسماء الشهداء.
في ذلك العام وتحديدا في شهر تشرين الأول منه انتفض العراقيون واعلنوا”استقالتهم من السكوت” ، وقالوا لمنظومة الحكم بصوت الأغلبية الساحقة الهادر ان “دار السيد مو مامونة”، وان السيل بلغ الزبا فغدا استمرار الحال من المحال!
لم تخرج الجموع الهادرة لأجل مطلب خاص، مثل تبليط شارع ليخسفه الفساد بعد أيام ، ولا لأجل راتب لا يسد الجوع من الرعاية الاجتماعية، التي حولها المتنفذون الى اداة أخرى للرشى وشراء الأصوات والدعاية الانتخابية ، ولا من اجل عقد عمل مؤقت مقابل شراء صوت الناخب وضميره ، ولا لوظيفة تباع في سوق النخاسة ، ولا من اجل رذيلة ، او اطلاق سراح فاسد او قاتل مجرم ، او توفير حماية لتاجر مخدرات فاسق ، او بفعل “عركة” على تقاسم واردات كمركية ، ولا “ لدكة عشائرية “ ، أو لغيرها وغيرها مما يعرفه بنات وأبناء شعبنا جيدا .
العراقيون في انتفاضتهم الباسلة خرجوا من اجل وطن، وقالوا لا بصوت واضح ومدوّي لكل من تسبب وما زال في صنع الواقع المأساوي الذي ابتلي به شعبنا ، والذي يعود سببه الجوهري الى النهج المدمر المعتمد ، والى منظومة الحكم التي تتبعه والتي هي بحق منظومة سيئة وفاشلة ، بددت وهدرت المال العام وعمقت التمايز في مجتمعنا، حيث الأقلية المفرطة في الغنى والمتمتعة الى حد التخمة الفاحشة، مقابل الغالبية العظمى المسحوقة. كما انها هي من ارجع العراق سنوات الى الوراء، وشجع على تقهقر قيم الاستقامة والوفاء والإخلاص والنزاهة والتكافل الاجتماعي ، وحفز استشراء الفساد حتى غدا منظومة متكاملة، وتعشّق مع السلطة والمتنفذين والسلاح، وبرع في اطلاق الكوارث والمآسي. وهل فاجعة الحمدانية مثلا ، بعيدة عن هذه المنظومة وفسادها ؟!
التاريخ سجل بأحرف مضيئة ان العراقيين جددوا في العام ٢٠١٩ تاريخم الحافل بالمآثر، وكانوا أوفياء لمُثل وتقاليد الرواد في ثوراتهم وانتفاضاتهم ووثباتهم ، وسجلوا أروع ملاحم التعاضد والتكاتف ، والبطولة والتضحية. فيما اخذت المرأة مكانها الطبيعي مناضلة باسلة اسوة بأخيها الرجل .
واضاء المنتفضون سماء بغداد بأكثر من ٧٠٠ كوكب ، هم شموع وزاد وذخيرة للعاملين الجادين من أجل غد أفضل وعراق جديد لا مكان فيه لكل هؤلاء القتلة والفاسدين والمرتشين وبائعي الضمير والمرتهنين للارادات الخارجية. عراق لا مكان فيه للعسف والقمع والتمييز وللراشي المتجول ولكاتم الصوت، ولا لـ “الطرف الثالث المجهول المعلوم” والمعتقلات السرية، عراق لا مكان فيه للعقول المريضة والداعشية والظلامية، التي تريد ان تجعل من بغداد ومدن العراق الاخرى قندهارات أخرى!
شعبنا في انتفاضة المجيدة التي لم ولن تنال من صدقيتها ووطنيتها ، أصوات ناعقة خائفة ومرتعبة ، هجر الصمت والتردد وكسر حاجز الانتظار السلبي ، ودخل افواجا ، نساء ورجالا ، شبابا وكبار سن ، الى ساحات العز والكرامة والفخر ، واعلن تصميمه على احراز النصر وهزيمة المتشبثين بالسلطة ومنظومتها الكابحة والفاسدة . وحقق الكثير على هذا الطريق ولعوامل عدة معروفة لم يكتمل المشوار رغم اجتراح المآثر والتضحيات الجسام ، المشوار الذي لابد من اكماله والحاق الهزيمة بمنظومة التحاصص التخادمي والفساد والفاشلين ، وفتح الفضاءات واسعة لعراق الحرية والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية ، عراق المواطنة والمؤسسات والقانون .
ستبقى انتفاضة تشرين خالدة.