اخر الاخبار

تلقيت وأنا أتهيأ للإحتفاء بالعيد 79 للإنتصار على الفاشية، اعتراضاً خجولاً من ابنتي الصغرى، التي وجدت في بعض احتفالاتنا انشداداً للماضي، يسبب ربما تغافلاً عن مهام آنية لليسار، تبدو أكثر أهمية من تمجيد عصر مضى وانقضى. وأفضى هذا الاعتراض بنا لحوار، لا على ما تواجهه قوى اليسار من مهام جديدة، لأني أشاركها الكثير من تصوراتها حول الحرية والعدالة وحماية البيئة والسلام، وإنما على راهنية الدروس التي ينبغي أن تستقيها البشرية من ذلك الانتصار سنة 1945، باعتباره حدثاً مقيماً، لا ماضياً طويت صفحاته.

فإذا كانت الفاشية، في الأمس، تمثل الديكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر رأس المال رجعية وشوفينية، والتي جاء وصولها للسلطة كمسعى من البرجوازية للخروج، وعبر الحرب، من أزمة دورية قاسية عانت منها في ثلاثينيات القرن الماضي، فإنها اليوم نتاج للعولمة الرأسمالية، التي تراجعت بسببها الشرعية الديمقراطية، وأصبح استخدام العنف للسيطرة على الصراع الطبقي مشروعاً، والتسامح غير المحدود مع نمو اليمين المتطرف ضرورياً، حتى بات يحكم أو يساهم في حكم العديد من دول أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

وكما اعتمدت الفاشية بالأمس على الفئات الوسطى الأكثر إحباطاً، جراء الكساد الشامل ونتائج الهزيمة في الحرب الأولى، تنمو الفاشية الجديدة في ظل تحول الدولة إلى تابع ذليل للشركات الإحتكارية وشرطي يحمي مصالحها، ليس المحلية فقط، بل والعالمية بدرجة أرأس. وتعتمد على أقسام من الشغيلة انتقلت لصفوف البرجوازية الصغيرة دون أن تُشرك في الثروة والسلطة وعلى ملايين المهمشين المحرومين من هوية اجتماعية واضحة، وليس لديهم من امتياز يجعلهم “الأرقى” غير الانتماء للعنصر والدين والطائفة التي تتبناها هذه الأفكار، مستفيدة من احتكار وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث، لتعليل وفرض افكار التفوق الخاصة باليمين المتطرف، ودفع الشبيبة إلى الاستسلام له كقدر محتوم وكبديل يعوضها عما تعانيه من تهميش سياسي وإقصاء اقتصادي وخراب فكري.

ولا بد هنا أن نتذكر بأن توسع قاعدة الفاشية الجديدة لتشمل شرائح طبقية متعددة، جاء نتاجاً أيضاً لفشل سياسات الوسط ويسار الوسط في توفير حياة مناسبة لها خلال العقود التي أعقبت انتهاء الحرب الثانية، في تشابه غريب مع ما كان قبل قرن من الزمان.

وكما كانت الفاشية والنازية مسؤولتين في الأمس عن موت أكثر من 55 مليون إنسان عبر العالم وتدمير أكثر من نصف المنجزات الحضارية، للبشرية خلال فترة لم تتجاوز الخمس سنوات، تتحمل الفاشية الجديدة مسؤولية فقدان ملايين الأرواح في حروب الوكالة بالعراق وافغانستان ويوغسلافيا واوكرانيا وسوريا وليبيا واليمن وأفريقيا، إضافة إلى مسؤوليتها عن تلويث البيئة وتدمير الغابات وتعريض ثلثي البشر للمرض والجهل والبؤس والبطالة.

وكما ارتكبت الفاشية والنازية في الأمس أبشع الإنتهاكات ضد حقوق الإنسان، من تعذيب وترويع وإبادة واغتصاب وقمع للآراء وتشريد للعقول وحجر على الإبداع، تتمظهر الفاشية الجديدة في انماط متعددة، يجمعها التمسك بالسائد، ومعاداة الحداثة والتنوير، ورفض حق الإختلاف واعتباره كسرًا لعصا الطاعة وخروجًا على الإجماع، وتقديس الدم والأرض لتلازمهما الوجودي، وكراهية المثقف، الاّ حين تتمكن من تدجينه، ورفض حرية التعبير والتعمد في تخويف الناس حتى يقولوا ما لا يؤمنون به.

ورغم كل هذا، تتجدد في العيد الثقة، بأن مصير هذه القطعان المتوحشة لن يكون بأفضل من سابقاتها، فهي أوهى من أن تقهر الإنسانية أو تزور التاريخ، حيث تبقى ذكرى 28 مليون شهيد سوفيتي وصورة الجنديين يغوروف وكنتاريا، وهما يرفعان راية البروليتاريا والكادحين الحمراء فوق مبنى الرايخستاغ خالدة، تفقأ عيون الفاشست وتبعث الأمل في الغد.

عرض مقالات: