مثّل شعار "نريد وطن"، الذي صدحت به الحناجر في انتفاضة تشرين الباسلة، أصدق تعبير عن أسئلة مترابطة ثلاثة، شغلت الجميع وما تزال، من سرق منا الوطن؟ وماذا فعل لتدميره؟ وكيف يُمكنننا استعادته؟
لقد صحا الناس، بعد عقود من حروب وإرهاب البعثفاشيين، على فجيعة احتلال، رسّخ منظومة محاصصة طائفية وأثنية، تتحكم بها أسر وقرابات قبلية، وتهيّمن في صفوفها المحسوبية والتنقل السريع بين الولاءات، وتتبنى مشروعاً لاقتسام السلطة والثروة وبناء الطائفية السياسية، التي يتصارع كل طرف فيها لترجيح حصته، بغض النظر عن كل الثوابت بما فيها عدم الاستقواء بالخارج.
ثم سارعت الشرائح البيروقراطية، الموروثة والجديدة، لإعلان ولائها للمنظومة مقابل حصة من الريع على شكل رواتب ضخمة والكثير من موارد اقتصاد المحسوبيات، عمولات ورشاوى و"خيرات" فساد شامل. كما التحق بهذه الأقلية الحاكمة، الطفيليون، المعتاشون على منافع سياسة الاستيراد بلا حدود والمقاولات والوساطة والسمسرة والمضاربة بالعملة. ولعدم إيمان هذا التحالف بالهوية الوطنية الجامعة، جرى تخريب الدولة وتفكيك بنيتها وخلق فجوة بينها وبين الشعب، حتى صارت هشة وقابلة على القسمة.
ولم يكتف هذا التحالف بسرقة الوطن، بل الحقه تابعاً لمراكز العولمة الرأسمالية، وتخلى عن مسؤوليته في الإدارة الرشيدة للموارد وفي التنمية، فتضاعف العجز وتعرّض الكادحون إلى الحرمان والتهميش الشديدين، وتمزقت الطبقة الوسطى، حتى بلغ عدد الجياع 11 مليوناً، وعدد سكنة العشوائيات 5 ملايين، ونسبة البطالة 17 في المائة، وعدد المصانع المتوقفة عن العمل 18167 مصنعاً، ونسبة مساهمة القطاع الزراعي والصناعي في الناتج المحلي الإجمالي 4.8 و 1.8 في المائة على التوالي، وحتى جرت سرقة أكثر من 400 مليار دولار من المال العام حسب التقديرات المتفائلة. وإسُتكمل التدمير بتخريب المؤسسات التربوية وإغراق البلاد بالتعليم الأهلي المتدني، وحُوّلت المستشفيات لمسالخ بشرية، وحُرم الناس من حقوقهم في الكهرباء والماء النقي والصرف الصحي والبيئة النظيفة. وبدلا عن معالجة تأثيرات البعثفاشيين على القيم، كالتكافل الاجتماعي والعقلانية والمأسسة والتخطيط العلمي وحق الاختلاف وعفة اليد واللسان، نُفذت خطط دقيقة لتغييب وعي الشعب واستخدام الإستقطابات الطائفية والعرقية لإبعاده عن ساحة الفعل وحجب تفكيره بقضايا جوهرية كالحريات والتنمية والعدالة. وكان هذا كافياً تماماً كي تخرج الناس في تشرين، لتستعيد الوطن.
وإذا أدت ضبابية الرؤية وضعف الخبرة وقسوة الخصوم إلى تأخر الناس في تحقيق ذلك، فإن جمرة ما يكتنزوه من تقاليد ثورية ستتواصل متقدة، لاسيما بعد أن أذكتها انتفاضة تشرين حين كسرت حاجز الخوف وأعادت الاعتبار للهوية الوطنية.
وسيُذكي الجمر أيضاً إذا ما تم إجهاض خطط التضليل وثقافة الإحباط ونزعات العدمية والفردية والميل لقبول الاستبداد أو التعايش معه والتعصب الفئوي والأنانية الحزبية، وإذا ما تواصل الحوار لبناء جبهة مدنية ديمقراطية، قادرة على تعبئة أوسع شرائح المجتمع ومنظماته المهنية، وتنشيط دور الأغلبية الصامتة التي تمثل أربعة أخماس الشعب، والتي لن تتجاوب لدعوات الكفاح بيسر.
ويتحمل اليسار بشكل خاص مسؤولية تبوء موقعه في مقدمة الموكب، كما أرادته الجماهير وتطلعت إليه دوماً، قوياً وموحداً، ينّمي وعي الناس بمصالحهم الطبقية المُنتهكة، وبطبيعة أزمة منظومة المحاصصة، التي لا خلاص منها إلَا بالتغيير الشامل، ويعزز ثقتهم بأن هذا التغيير نتاج تراكم كمي لثمرات نضالهم ضد الظلم والتهميش، وأن الفصل بين الحريات والعدالة الاجتماعية مجرد خرافة لا معنى لها. كما لا بد من مواصلة تنمية روح المواطنة والإحساس بأن شعباً يستعبده الطغاة وينهشه الفقر لن يكون حراً، ولذا فإن شمس انتفاضاته ستشرق حتماً.