يخوض اليسار بمختلف أطيافه ومنذ عقود، صراعات حادة مع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، التي يحلو للبعض سهواً أو عمداً تسميتها باليسار، رغم افتضاح دورها، وخاصة أجنحتها اليمينية، في كسر أمواج أي مدّ يساري تاريخي، ودعوتها للمصالحة بين العمل ورأس المال.
وتتبنى تلك الأحزاب في مسارها هذا، نهجين شعبويين متداخلين، يتمثل الأول في التعاون مع الليبرالية الجديدة والترويج لإطروحاتها وتسويق بعض رموزها، بغية تيسير التعاون معها كسباً لأصوات "المعتدلين"، فيما يتسم الثاني باتباع سياسة تقشف قاسية وتصفية مكتسبات دولة الرفاه ومواجهة الاحتجاجات الشعبية، والتعاون مع الطغاة ومنتهكي حقوق الانسان (كما في إسرائيل وجمهوريات الموز اللاتينية)، مقابل تخادم اقتصادي ومصالح انتخابية ضيقة، خاصة عند الركود واشتداد الفرز الطبقي.
وإذا كانت سياسة هذه الأحزاب قد أكدت مقولة الفيلسوف نيتشة من أن من يبقى يحّدق في الهاوية ينتهي بالسقوط فيها، فأن الكثيرين اليوم يرون بوضوح بأن مصداقية اليسار، تشترط تميّزه عن الديمقراطية الاجتماعية، سواء في برامجه أو في أساليب عمله وعلاقته بالناس، أو في قدرته على تحديد أسباب وأبعاد مشاكلهم ووضع حلول ملموسة لها، بما في ذلك مسار تنفيذ الحل وتمويله والشخوص الذين يتصدون لذلك، فلا يكفي أن يطالب اليسار بتوفير فرص عمل ورفاهية في الخدمات الأساسية والمداخيل، دون أن يرسم الآلية التي تعيد توزيع الثروة وتقلص الاستغلال وتفتح الطريق لبناء المجتمع الديمقراطي، الذي يصون جميع حقوق الإنسان ويقوم على ركيزتيّ العدالة والحرية، مجتمع الرفاه وليس العوز.
كما يرى الكثيرون بأن هذه المصداقية تشترط الثقة بالنفس والوضوح والصراحة، لأن الناس لا يتبنون فكرة لا يثق بها أصحابها، ولا يقتنعون بهم إلّا إذا ما عكست نشاطاتهم السياسية والجماهيرية والفكرية قدرتهم على التغيير وامتلاكهم لأدواته. ولهذا يحظى تحديد سلم الأولويات أهمية قصوى في عمل اليساريين، تماماً كالمرونة في تغيير مواقع المهام على درجات هذا السلم، تبعاً لتغير المعطيات التي يعكسها الواقع، دون إغفال الرصد الدقيق لما يتسرب أو يُسرب قسراً لصفوف اليسار، من أفكار اليمين ومناهجه، والعمل على تفنيدها في حوار علمي بنّاء، يصون الوحدة ويفّعل التفكير الخلاق ويحافظ على حيوية الديمقراطية داخل حركات اليسار وفيما بينها.
ويشير آخرون إلى أن من اشتراطات المصداقية الكف عن طرح الأفكار المجردة، مهما كانت جميلة وصائبة، وتحرير الفكرة من دفات الكتب وتقديمها واضحة للناس ومعّبرة عن تفاصيل حياتهم اليومية، فلم يعد لأحد اليوم الوقت للتأمل والتحليل، كما أن من لا يقرأ ولا يكتب ولايملك ما يستره ويفتقر لتكاليف إطعام أطفاله، لن يستوعب ما يقوله المناضلون، إلّا إذا ما رأى أفعالهم بعينيه واطمأن قلبه لهم.
وتتطلب المصداقية لدى أطياف مختلفة، توسيع دائرة اليسار لتضم جميع قواه، مهما كان حجمها وطبيعة برامجها، فلا بأس أن يكون هناك من يقف عند الدفة وفي صلب المشاق مع وجود من يريد أن يبقى متأملاً في حديقة الدار، وأن يشارك في الجهد على قدر استطاعته، دون أن يتم الإخلال بمقولة سمعتها منذ كنت طفلاً، الأجر على قدر المشقة، ولن يكون هناك أجر أكبر من أن يتحول المناضل نبضاً في قلوب رفاقه والناس.
ورغم المواقع المتقدمة التي تبوّأها اليسار في الكفاح الوطني، مازال بحاجة في مواجهة التضليل والتشويه المعادي، إلى التأكيد على هويته المتميّزة، التي تجمع بين التعبير عن مصالح جموع الكادحين وبين الدفاع عن مصالح الوطن والهوية الجامعة لسكانه وكذلك التضامن مع كل ضحايا العسف والاستغلال في العالم.