في مثل هذه الأيام قبل 107 أعوام، حدث التغيير الأبرز في التاريخ، وتمّكن الفقراء بقيادة البلاشفة من إنجاز الثورة العظمى، وإقامة نظام اقتصادي جديد، نقل روسيا المتخلفة والمفككة إلى مصاف الدول العظمى، وألغى الاستغلال وأعاد للبشر آدميتهم ومهّد لطريق الخلاص من مآسي الرأسمالية. ثورة أغنت الوعي الجمعي للإنسانية بقيم الخير والمساواة والسلام وحقوق المرأة، وصارت أيقونة تُلهم الشعوب سبل استعادة حريتها وكرامتها وحقها في التنمية والعدالة، وفتحت الآفاق رحبة لانتصار الحركات التحررية في العالم، وأسقطت أبشع ما أنتجته الإمبريالية، الفاشية والنازية.
لم تكن الثورة انقلاباً دُبّر بليل القيصرية الأسود، بل كانت نتاجاً بديهياً لاحتدام الصراع الطبقي. فبعد 33 ألف نشاط وتمرد ثوري خلال الفترة 1903-1917، ما عاد أمام البلاشفة من خيار سوى التفاعل الإيجابي مع ذاك النتاج واجتراح المأثرة.
كانت روسيا الإقطاعية تتحرك بحذر نحو الرأسمالية، تقودها طبقة برجوازية ضعيفة، استلمت الحكم وانخرطت في مساومات مع الملكيين وكادت أن تسقط لصالحهم في انقلاب كورنيلوف الدموي، في وقت أظهرت فيه البروليتاريا قدرتها على التغيير، وتمّكنت من تنظيم قواها مع الفلاحين والجنود في مجالس ديمقراطية (السوفيتات)، صارت هي وليست الحكومة، المعبّر عن إرادة الشعب، الأمر الذي أدى لنشوء الوضع الثوري، إذ لم تعد البرجوازية قادرة على الهيمنة ولم تعد الشغيلة قادرة على العيش بالطريقة القديمة.
كما أن الادعاء بأن الثورة كانت دموية وخلقت نظاماً دكتاتورياً شمولياً، ليس سوى هراء وتزوير وقح للتاريخ. فحين رفع البلاشفة شعار "كل السلطة للسوفيتات" وطالبوا بالسلام والإصلاح الزراعي، انضمت إليهم الأغلبية الساحقة، ملايين من الجنود المعدمين والفلاحين الجياع، فكنست حكم البرجوازية وأسقطت قصر الشتاء دون عنف يذكر. ورغم الصورة البشعة التي يرسمها الإعلام الإمبريالي للحرب الأهلية، فإنها لم تكن سوى دفاع باسل، خاضه العمال والفلاحون والجنود، ضد العنف الشرس للرأسماليين وملاك الأراضي وجيوش أربع عشرة دولة معتدية، تدخلت لإجهاض حلمهم.
لقد ألغى لينين عقوبة الإعدام، وأنكر تماماً القدرة على إقامة اشتراكية بدون ديمقراطية. ولم يسعَ البلاشفة للحكم منفردين، بل عمدوا لتشكيل حكومة ائتلافية مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، معتبرين دكتاتورية البروليتاريا تعبيراً حقيقياً عن إرادة غالبية السكان، سلطة العمال على الرأسماليين وسلطة الفلاحين على الملاكين. ورغم أنها لم تكن ديمقراطية بالمعنى البرجوازي، فإن البلاشفة حاولوا أن يبتكروا شكلاً متطوراً للحرية يتناسب والعدالة الاجتماعية التي أقاموها، وهو ما اشترطه ماركس ولينين للمجتمع الاشتراكي، لكنهم للأسف لم ينجحوا بذلك، لأسباب موضوعية وذاتية، كان أهمها توقف لهيب الثورة في روسيا وعدم امتداده للدول الصناعية المتطورة، وتدني القدرات الإدارية والعلمية للبروليتاريا، والحاجة الماسة لحماية الاشتراكية في بلد واحد، واختلال توازن القوى لصالح الإمبريالية، وهي ظروف معقدة، اشتدت صعوباتها بإنفاق ثروات كبيرة على التصنيع والتحديث والتسليح، والاكتفاء بمجتمع العدالة والحماس الثوري بدل تحقيق مجتمع الرفاهية، الأمر الذي فتح الباب واسعاً لنشوء سلطة مركزية حادة، وإحلال حكم النخبة بديلاً عن حكم الجماهير الواسعة، فتغّولت البيرقراطية التي نخرت التجربة ومكّنت قوى الشر منها.
وإذ يرينا تواتر الأحداث منذ انهيار التجربة الأولى، بقاء شمس أكتوبر عصية على الغياب، حيّة في ما يحققه اليسار من تقدم، فإن كل المحتفين بذكراها موقنون اليوم بأن تحقيق الظفر يشترط وحدتهم ونجاحهم في استنباط حلول لما تقادم من أفكار، واتقانهم فن التعامل مع المتغييرات، وتوصلهم لصيغة معاصرة تجمع بين الحرية والعدالة، على أن تتبلشف الأرواح لتصير أنقى وأصدق وأكثر قدرة على الإيثار.