تتفق أطياف اليسار المختلفة اليوم على أن الصراع الحاد بين الرأسمالية الصناعية وذراعها الاستعماري وبين الطبقة العاملة والشعوب المستعمَرة، والذي تميز به القرن العشرون، أسفر عن تحقيق منجزات هائلة على صعيد مستويات المعيشة والحريات وتحرير المرأة وإنهاء الكولونيالية وتحسن الرعاية الصحية وإرتفاع معدل الأعمار، رغم الثمن الباهض الذي دفعته البشرية في ذلك الصراع.
غير أن هذا التقدم واجه كبوة كبيرة مع صعود الليبرالية الجديدة بنهاية القرن، حيث تباطأ التصنيع وهيمن رأس المال المالي وصارت المستعمرات السابقة، تابعة و "مكتفية" بحريات محدودة ومشروطة، وتم تحجيم قوى اليسار حتى بات الكثيرون لا يرون فيها املاً أو الهاماً مشعاً.
ولإضاءة معالم التغير في سمات الصراع، وجدت أطياف يسارية، بأن نمو البروليتاريا في الدول المتطورة وشغيلة الدول التابعة وحركتها التحررية من الإستعمار، لم يعّد متزامناً مع تطور الأشكال الجديدة من الرأسمالية المالية والرقمية، مما دفع بتناقضات جديدة للواجهة، هزت كل جوانب الحياة اليومية، من إدمان الإنترنت إلى السيارات الكهربائية ذاتية القيادة، لاسيما بعد أن سجل تطور شركات التقنية الحديثة وحجم هيمنتها على السوق العالمية، سرعة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، حيث يسيطر نظام التشغيل ويندوز من مايكروسوفت على 75 في المائة من أجهزة الكمبيوتر المكتبية، وتستحوذ فيسبوك وشركتها التابعة إنستغرام على 82 في المائة من حركة وسائل التواصل الاجتماعي، وتتحكم جوجل بأكثر من 92 في المائة من سوق محركات البحث العالمية، ويحرك نظام التشغيل أندرويد أكثر من 80 في المائة من الهواتف الذكية في العالم.
كما شهد ميدان التمويل تطوراً مماثلاً، فأصول شركة بلاك روك للاستثمار مثلاً تتجاوز 10 تريليون دولار، وتسيطر أكبر عشرين شركة لإدارة الأصول مجتمعة، خمس عشرة منها أمريكية، على 44 تريليون دولار، وهو مجموع الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا.
وأكدت الأطياف اليسارية أيضاً على أن مالكي هذه الشركات الرقمية والمالية، هم من بين أكثر الرأسماليين جشعًا وقسوة، فهم يحرمون العمال من أبسط حقوقهم النقابية، ويتهربون من الضرائب ويستغلون الإنفاق العام لتحقيق أرباح مذهلة. وكمثال على ذلك، بلغ معدل الربح الإجمالي لجهاز آيفون أو سامسونج غالكسي، 60 في المائة قبل عقد مضى، في وقت لم يرتفع فيه الدخل السنوي للأغلبية بأكثر من 1.8 في المائة!
وفي الوقت الذي تهتم فيه الرأسمالية بأرباحها وتدّعي بأن القيود على تخريب البيئة يؤثر سلباً على النمو، بات مفضوحاً ما سببته شركاتها من كوارث أدت لتغير المناخ وخراب البيئة والجفاف وحرائق الغابات والفيضانات وارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو بنسبة 11.4 في المائة خلال عقدين، إضافة إلى المخاطر الهائلة التي تسببها الزيادة في انبعاثات غاز الميثان من النفايات الناتجة عن مخلفات الطعام، والتي يأتي معظمها من المجتمعات الرأسمالية "المتطورة"، لأن باقي البشر أما جياع أو لديهم فقط ما يسد الرمق.
ولهذا باتت أغلبية أطياف اليسار متفقة على أن الأزمات الاقتصادية، التي رافقت تطور أكثر أشكال الاستغلال الرأسمالي قسوة، وشموله التعليم والرعاية الصحية وكل الخدمات العامة من أجل تحقيق المزيد من الأرباح، فنّدت الآراء التي ادّعت بأن الثورة الصناعية الرابعة ستفضي لإنتاج رأس المال البشري وستقضي على الربح في الرأسمالية. وكان بديهياً أن يؤدي هذا الاضطهاد الطبقي البشع والمخاطر الكبيرة التي تهدد الحياة في الأرض، إلى نهوض اليسار وتجدده ولولادة يسار جديد، لا فرق بين الرايتين، يسار يتحدى بجدية الإمبريالية، ويمثل تهديداً متنامياً لهيمنتها.