سبق ان اشرنا مرارا الى ان إساس البلاء والكوارث والأزمات المتلاحقة في هذا البلد هو تسلط منظومة المحاصصة والفساد، وهيمنة تحالف غير مقدس بين العديد من صناع القرار والمتنفذين، مع مجاميع مافيوية مدعومة بسلاح منفلت خارج مؤسسات الدولة.
فالمنهج المحاصصاتي التخادمي بين من يدعون تمثيل المكونات، وهي من غالبيتهم براء، هو منهج مشوِّه للديمقراطية، وعنصر تخريب وإساءة لمؤسسات الدولة وإضعاف لقدراتها وامكاناتها. وهو يوفر الحماية للفساد والفاسدين، بل وحتى للقتلة، فيما يثير دوافع الهيمنة والتسلط والصراعات العبثية، ويؤجج النزعات البدائية، ويلغي ويصادر مبدأ المواطنة والفرص المتكافئة للمواطنين العراقيين.
وقد قاد هذا النهج الفاشل الى عجز عام على مختلف المستويات، وعزز من مواقع الفئات البيروقراطية والطفيلية والكومبرادورية والفاسدين والمرتشين في مفاصل مؤسسات الدولة ، كما في الاقتصاد العراقي. وشكّل غطاء سميكا للنهب المنظم والمتواصل لأموال الشعب.
وتأسيسا على هذا وارتباطا به وبتدهور هيبة الدولة وضعف إمكانية انفاذ القانون وحماية المواطنين وممتلكاتهم واموالهم، وقبلها حرياتهم وحقوقهم وفي المقدمة الحق في الحياة، نمت في المجتمع ظواهر غريبة لم يألفها سابقا. وتكريسا لها يجري على قدم وساق تسطيح العقل والعلم والمعرفة وتزييف الوعي، وتجهيل الناس وإثارة غرائزهم البدائية، وتوظيف ذلك في ادامة الهيمنة والنفوذ والتسلط، دونما اكتراث للسلم المجتمعي ولضرورة توطيد أواصر ووحدة المجتمع، وضمان سلامة البنية الاجتماعية وتجنبيها مخاطر التفكك والتشظي.وجراء السياسات المتبعة منذ ٢٠٠٣، والمنهج المعتمد في إدارة الدولة، والمولّد للازمات والكوارث والمآسي، اتسعت على نحو مقلق الفجوة بين قلة من ذوي الثراء الفاحش، تحتكر السلطة والمال والسلاح والاعلام، واكثرية ساحقة تعاني الفقر والعوز والحرمان والركض اليومي لتأمين لقمة العيش، والتزايد المضطرد لمن هم تحت خط الفقر. ولا أدل على ذلك مما يعلن عن ارتفاع اعداد المشمولين بالرعاية الاجتماعية مثلا، والذي يعده المسؤولون في الدولة إنجازا، فيما هو يعكس واقع الفقر والعوز المتزايدين. ويضاعف من سوء الحال ضعف الخدمات العامة : التعليمية والصحية والبلدية والنقل العام، كما في مجالي الكهرباء والماء.
وهناك ظواهر يجري عن عمد وقصد تجاهلها وتغييب مغزاها ودلالاتها، وطمس أسبابها الحقيقية ومنها: تجارة التهريب وغسيل الأموال، وانتشار المخدرات، والاتجار بالبشر وأعضاء الجسم، والنزاعات العشائرية والمناطقية، والعنف الاسري وتعنيف الأطفال وامتهان كرامة المرأة، وانتشار الرذيلة.
كل هذا وغيره يجري بتشجيع ورعاية وحماية من متنفذين وسلاحهم، وان ما تعلنه مؤسسات الدولة ذاتها يؤشر تفاقم هذه الظواهر الاجتماعية المقلقة حقا.
يحصل كل هذا مع استمرار التضييق المبرمج والمقنن والمخطط على الحريات العامة، وعلى حق الاجتهاد والاختلاف وحرية التعبير. ويجري ذلك بحجج متعددة مفتعلة وذات أهداف واضحة، وان ادعى القائمون بها حرصا مزعوما على المجتمع والدين وعلى صيانة كرامة المواطن.
بعد عشرين عاما من حكم هذه المنظومة وما اوصلت اليه أوضاع الشعب والوطن، فان غالبية العراقيين، وهي تعاني من منهجها وادائها وسلوكها، لم تعد تثق بها وبوعودها. وان هذا وغيره يفرض موضوعيا ضرورة التغيير الشامل، وليس انتهاج سياسة اطفاء الحرائق هنا وهناك، ضمن مساعي تجنب غضب الشعب وانفجاره، وإعادة تسويق كيانات واشخاص جربوا بما فيه الكفاية.
والمطلوب من هذا التغيير ان يعيد بناء مؤسسات الدولة على وفق مبدأ المواطنة، ويعتمد نهجا جديدا في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويسعى لارساء قيم جديدة في المجتمع؛ قيم الحريات وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، ويضمن التمثيل الحقيقي لارادة العراقيين وطموحهم الى حياة آمنة ومستقرة وكريمة في ظل تقدم اجتماعي شامل.