- التفاصيل
- محمد التميمي
- تقارير
- 78
تشهد بيئة الاستثمار في العراق جدلاً واسعاً حول حجم الاستثناءات التي تمنحها الحكومة للمشاريع الاستثمارية، والتي تضاعفت بشكل لافت في السنوات الأخيرة مقارنة بالفترات السابقة.
هذه السياسة أثارت المخاوف من تعطيل مبدأ المنافسة العادلة، وتحويل بعض الفرص إلى صفقات خاصة، خصوصاً في ظل مشاريع كبرى لم تتجاوز نسب إنجازها حدوداً متواضعة.
وفي الوقت الذي يرى فيه مراقبون أن هذه التسهيلات قد تشكل عامل جذب سريع للاستثمارات، يذهب آخرون إلى أنها تعكس غياب رؤية مؤسسية واضحة، وتفتح الباب أمام المحاباة وتضارب المصالح، الأمر الذي يضعف ثقة المستثمر والمواطن معاً.
استثناءات استثمارية مضاعفة
يقول نائب رئيس لجنة الاستثمار والاقتصاد النيابية، حسين السعبري، أن الحكومة الحالية منحت استثناءات في مجال الاستثمار تفوق ما منحته الحكومات السابقة بأضعاف، مشيراً إلى أن هذه الاستثناءات عطلت مبدأ المنافسة العادلة وأثرت على جدية المشاريع.
ويضيف السعبري في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "قرار مجلس الوزراء رقم (245) وقانون الاستثمار يُلزمان الهيئة الوطنية وهيئات الاستثمار في المحافظات بإعلان الفرص الاستثمارية بشفافية، إلا أن أغلب المشاريع تُمنح عبر استثناءات تصدر من مجلس الوزراء، مما يُنهي مبدأ التنافس".
وأشار إلى أن "الحكومة الحالية تعد الأكثر منحاً للاستثناءات، حيث ارتفعت إلى ما يقارب ستة أضعاف مقارنة بالحكومات السابقة"، لافتاً إلى أن "ذلك انعكس على مشاريع كبرى مثل مدينة علي الوردي والجواهري، التي أُعطيت لمستثمرين أجانب من دون فتح باب المنافسة أمام الشركات الأخرى".
وأضاف أن "المستثمر في هذه المشاريع لم ينجز سوى أقل من 25 بالمائة من أعمال البناء، ورغم ذلك حصل على استثناء رسمي يتيح له بيع الشقق على الخارطة، حيث جُمع من كل مواطن مبلغ 31 مليون دينار من دون وجود نسبة إنجاز حقيقية حتى الآن".
تحوّل الاستثمار إلى صفقات خاصة
من جهته، أكد أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي، أن منح الحكومة استثناءات استثمارية واسعة النطاق، وبوتيرة غير مسبوقة مقارنة بالحكومات السابقة، لا يمكن تفسيره من زاوية واحدة.
وقال السعدي في حديث لـ"طريق الشعب"، ان هذا السلوك "إما يعكس سياسة اقتصادية مدروسة تسعى لجذب استثمارات كبيرة وسريعة عبر شروط محفزة، أو أنه دليل على فوضى إجرائية وغياب رؤية موحدة تُترجم بالاعتماد على قرارات استثنائية بدلًا من إصلاح تشريعي ومؤسسي واضح".
وأضاف أن الواقع يعكس مزيجاً من الاحتمالين معاً، مشيرا إلى أن قانون الاستثمار يمنح أصلاً مساحة واسعة من الحوافز والإعفاءات، غير أن تحويل هذا الإطار القانوني إلى استثناءات تصدر من مكتب رئيس الوزراء أو لجان خاصة يؤدي إلى تآكل الضوابط الطبيعية، ويزيد من مخاطر المحاباة والفساد ما لم تُرافقه آليات شفافة وضمانات لمنافسة عادلة وتقييم موضوعي للعوائد الاقتصادية والاجتماعية للاستثمارات.
وأوضح أن "الإجابة العملية عن سؤال ما إذا كانت هذه الاستثناءات تعزز الاستثمار أو تكرس ثقافة الصفقات الخاصة، تكمن في النتائج على الأرض"، مضيفا "اذا اقترنت بإنشاء مشاريع حقيقية تُوفّر فرص عمل، وتُنتج بنى تحتية، وتساهم في نقل التكنولوجيا، فإنها ستكون سياسة مشجعة وفاعلة، أما إذا ارتبطت بمنح امتيازات لأسماء محددة بعيداً عن المناقصات الشفافة وتقييم الجدوى الاقتصادية، فإنها تتحول بسرعة إلى وسيلة لتمرير أرباح خاصة على حساب المصلحة العامة".
وفي ما يتعلق بظاهرة بيع الشقق على الورق رغم نسب الإنجاز المنخفضة، حذّر السعدي من خطورتها، معتبراً أنها ممارسة تقترب من استغلال المواطن، إذ تنقل عبء المخاطرة في البناء إلى المشتري قبل اكتمال المشروع.
وبيّن أن "بيع وحدة سكنية بإنجاز لا يتجاوز 25 في المائة، يعني عملياً أن أموال المواطنين تتحول إلى تمويل مباشر للبناء من دون أي ضمانات حقيقية في حال تعثر المشروع أو تغيّر أولويات المطوّر".
وأشار السعدي إلى أن التسهيلات الاستثنائية "قد تُستخدم في أحيان كثيرة كستار لتغطية إخفاقات الحكومة في إدارة ملف الإسكان، فبدلًا من إطلاق برامج إسكان مدعومة تمكّن المواطن من الحصول على سكن فعلي، تُعتمد سياسات تستقطب المستثمرين بشروط ميسرة تُحقق أرباحاً أكبر للمطورين على حساب حقوق المواطنين".
وأشار الى ان خطورة هذا المسار تزداد حين تغيب الرقابة الصارمة والالتزامات الزمنية الواضحة، وكذلك الضمانات البنكية التي تكفل حقوق المشترين وتحاسب المتأخرين في التنفيذ.
وشدد السعدي على أن الحكومة تتحمل مسؤولية أساسية في هذا الملف، لأنها الجهة المخوّلة بوضع القواعد وضمان حيادها، مؤكداً أن الاعتماد على قرارات استثنائية من مكتب رئيس الوزراء يعزز المركزية المفرطة ويضعف دور المؤسسات الرقابية واللجان الفنية المتخصصة، الأمر الذي يفتح الباب أمام تضارب المصالح ويقوّض العدالة في السوق.
تكريس نفوذ المصالح الخاصة
من جهته، قال الباحث في الشأن الاقتصادي سامر العلي إن “بيئة الاستثمار الحالية لا تفرز سوقاً تنافسية متوازنة، بل تفتح المجال أمام من يمتلك النفوذ السياسي والاقتصادي، وهو ما ينعكس سلباً على ثقة المستثمر النزيه والمواطن معاً".
واضاف العلي في حديث مع "طريق الشعب"، أن “الحديث عن إصلاح قانون الاستثمار وإغلاق باب الاستثناءات ما زال في إطار التصريحات الرسمية والرغبات المعلنة، بينما يكمن التحدي الحقيقي في ترجمة هذه النوايا إلى تشريعات واضحة وآليات مؤسسية فعلية".
وواصل انها تشمل "تنظيم المناقصات، وضمان المشاركة المحلية، وتعزيز الشفافية في نشر العقود ومتابعة التنفيذ”، محذرًا من أن غياب هذه الإجراءات سيجعل الاستثناءات مجرد أداة سياسية واقتصادية للبقاء في السلطة بدلًا من أن تكون مدخلًا للنهوض الاقتصادي.
ونوّه العلي إلى أن “استمرار الحكومة في سياسة التسهيلات غير المقيدة سيترك آثاراً سلبية مزدوجة على المدى المتوسط؛ أولها فقدان ثقة المواطن الذي يشعر بالاستغلال الاقتصادي، وثانيها تراجع ثقة المستثمر الجاد الباحث عن قواعد واضحة ومنافسة عادلة”.
وبين أن هذا المسار “سيجذب استثمارات قصيرة الأجل أو قائمة على المصالح الخاصة، بدلًا من استثمارات مستدامة تُسهم في نقل التكنولوجيا وتوفير فرص العمل الحقيقية وبناء قيمة محلية”.
وتابع حديثه بالاشارة الى ان "تشجيع الاستثمار لا يتحقق عبر القرارات الاستثنائية المشتتة، إذ يتطلب قانوناً واضحاً وتنفيذاً مؤسسياً شفافاً يضمن العدالة ويحمي حقوق المواطن".
وخلص الى التأكيد على ان "الاستثناءات العشوائية، تكلف الدولة ثمناً باهظاً على المدى البعيد، وهو ما يتطلب إغلاق هذا الباب تدريجياً، وإطلاق حزمة تشريعات تنفيذية تعيد الاعتبار لهيئات الاستثمار وتفرض رقابة مالية وقانونية صارمة تكفل المصلحة العامة وتعيد الثقة للمواطن والمستثمر على حد سواء”.