يستعيد العراقيون في الذكرى الخامسة لإنتفاضة تشرين الباسلة، مذاق عشق لا ينضب، وأريج وفاء تسلل شذاه فأوقد جمرة الوعي، ووميض فجر تدفق في الروح شجاعةً، تحّدت الطغاة المدججين بأسلحة القمع، وبصيرةً، أخمدت دخانيات الشقاة التي أرادت أن تُعمي الأبصار.
ورغم عدم قدرة الشبيبة المنتفضة حينها، على تحقيق أهدافها المباشرة، لغياب توازن القوى بينها وبين اليمين الفاسد، ولقصور ذاتي ترك تأثيره السلبي على بعض مفاصل عملها، فقد سجلت تشرين ولادة قوة جديدة من بيوت الطين المثقلة بالجوع، قوة تغيير حرّة متنوعة الأنساق، جمعت بين أهداف وطنية تنبض للدفاع عن إستقلال الوطن وسيادته وعن الهوية العراقية الجامعة، وأهداف طبقية تسعى لحماية الحريات التي يشترطها أي تقدم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، بما فيها المساواة بين المرأة والرجل، والتي بدونها تبقى الديمقراطية طوطماً بلا روح.
ولم يتمكن اليمين حينها من إطفاء اللهيب، رغم تشتيت الانتفاضة وتمزيق صفوفها، فبقيّ الجمر متقداً، وتواصل الحراك الإحتجاجي فاعلاً كل يوم في ساحات الوطن، ضد السياسات التي غيّبت إرادة العراقيين وأضعفت إستقلالية قرارهم الوطني، وضد هيمنة أقلية عاجزة عن حل المشاكل المتفاقمة في الاقتصاد والصحة والتعليم والتنمية وتوفير الخدمات الاساسية.
كما بقيّ الشعب، الذي أوقعت هذه المنظومة، ثلثه في براثن الفقر ونصف شبابه في جحيم البطالة والمخدرات والإستقطابات والمافيات، سخياً كعادته في رفد سوح الحراكات الاحتجاجية بالمزيد من المنتفضين، يعمّق قناعاتهم بعدالة قضيتهم ويمنحهم خبرة أكبر، ويعوض الخسائر الناجمة عن الإستشهاد، وربما عن انتقال البعض لضفة الخصوم بحثاً عن الحليب كامل الدسم، رغم أن الأكثرية ترى في المنتقلين زَبداً ذهب جُفاءً وبقّي في الساحات من ينفع الناس.
وكما اشترط استمرار الجمر متقداً فضح مخططات اليمين المتواصلة ضد الاحتجاجات الجماهيرية حتى حين يخفت لهيبها مؤقتاً، ضاعف الحاجة للكفاح بغية إجهاض سعي المتنفذين لفرض المزيد من الاستبداد والقيود على التجمعات والحريات، وسحق الاحتجاجات السلمية بالقوة، ومنح أدوات القمع سلطات وامكانيات أكبر، وإسقاط التهم عن مجرمين تلطخت أيديهم بدماء الناس، وقتل وخطف وتغييب المحتجين وتجريم بعضهم، والتراجع عن المكتسبات واحتواء بعض المقاومة المدنية بالترغيب وشراء الذمم، وتشويه سمعة الرموز والقوى الجذرية بحجج مختلفة والسعي لعزلها اجتماعياً، والمراهنة على الزمن والنفس القصير، وتغيير نمط الصراع ليكون تعبيراً عن اختلافات في الهوية الدينية أو الإقليمية أو العرقية، تتحكم به روابط أسرية أو قبلية، بدل كونه تعبيراً إيديولوجياً عن سياسات طبقية، واعتماد تخدير الناس ببهرجة منجزات لا محتوى حقيقي لها، تذّكرنا ربما بمحافظ، ملاً شوارع الناصرية بمصابيح ملونة فيما كانت أغلبية سكانها تتضور جوعا.
وإلى جانب اليقظة الشديدة، يرى الكثيرون بأن تحقيق الحراكات الجماهيرية للتغيير الذي تنشده، يتطلب ولادة قيادات ميدانية، تنبثق من الساحات ولا يقتصر عملها في أيام المدّ فحسب، بل ويتواصل في أيام الجزر والتعبئة، مشددين على وعي أصفى وإدراك عميق لأسباب الصراع وأطرافه، وسبل المواجهة، دون شخصنة أو عواطف لا تسمن عن جوع، والتعزيز المستمر للثقة بالشعب والتواضع أمام قدراته والتتلمذ على يديه، والاستفادة من تقنيات الاتصال ومنصات الوسائط الجديدة، في التعبئة وتبادل الخبرة بين الحراكات في المدن المختلفة وساحات الثورة في العالم، والتفاعل معها في إتقان أساليب الاحتجاج وتكتيكاته. كما لابد من إتقان فن الجمع بين أشكال النضال وعدم إهمال أية فرصة لفعالية إحتجاجية، مهما كان حجمها ومكانها وزمانها، ما دامت تتسق مع الهدف في التغيير الشامل، فمن مستصغر الشرر يندلع اللهيب.