اخر الاخبار

يعّد كتاب "الربيع الصامت" والذي صدر في عام 1962 للكاتب راشيل كارسون، جرس الإنذار الأول عن الخراب البيئي الذي بدأت تتضح معالمه منذ ستينيات القرن الماضي، بعد تعمق الجوانب السلبية للتطور الرأسمالي السريع في أوربا وأمريكا والزيادة المضطردة في الانبعاثات التي باتت تلوث هواء المدن في كثير من الحالات، والاستخدام غير المنضبط للمواد الكيميائية الخطرة والمبيدات الحشرية والأسمدة المصنّعة وما تركته من أثار مدمرة، ليس على الطبيعة فحسب بل وعلى حياة الناس، وفي طليعتهم العمال والفلاحون، المستخدمون الرئيسيون لهذه المواد، حين يبيعون قوة عملهم في سوق البيئة المخربة.

وساعد انتشار هذا التحذير ومثيله المنشور في كتاب الكيميائي هانز بالمستيرنا، "النهب والجوع والتسمم" والصادر عام 1967، على انطلاق حركات الدفاع عن البيئة في العالم واكتسابها شهرة كبيرة وما تزال، وتحقيقها الكثير من الإنجازات في مجال الحد من خراب الطبيعة، بعد عمل متواصل ومضنِ.

وفي خضم هذا النضال ضد قطع الغابات وتلويث الأنهار والتربة واستخدام المنشطات الهرمونية لزيادة أرباح الرأسماليين في الإنتاجين الزراعي والحيواني، وضد الطاقة النووية وسباق التسلح، ظهر منذ النصف الأخير من ستينيات القرن العشرين، يسار جديد، توافق مع التجارب القائمة للاشتراكية في أمرين، أولهما ضرورة تحرير المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي وتنمية طاقات الفرد وقدراته الذاتية الخلاقة خارج ميدان العمل الاقتصادي، وثانيهما اعتبار الملكية العامة لوسائل الإنتاج، القاعدة الأساسية لبناء المجتمع الاشتراكي المتطور. لكن هذا اليسار اختلف أيضاً في أمرين مهمين، أولهما غياب تطبيق سليم للديمقراطية الاشتراكية وثانيهما عدم تجنب مشكلة الدمار البيئي الذي اكتسب حتى هناك أبعاداً مخيفة.

ولعل من أبرز منظّري هذا اليسار المفكر النمساوي الفرنسي أندريه جورز، الذي صاغ مصطلح "النمو السلبي للإنتاج المادي" وانتشرت كتبه "البيئة والحرية" و"البيئة والسياسة" في سبعينيات القرن الماضي، محاولة تسليط الضوء على كيفية استغلال الطبيعة في كل من الغرب والشرق، كجزء من الاغتراب الاستهلاكي وعلى أن الرؤية الاشتراكية للتحرر الإنساني ما زالت بعيدة عن التطبيق العملي.

ورويداً رويداً، اقتربت القوى الراديكالية داخل الحركة البيئية واليسار الجديد من بعضها البعض، معتمدة ذات المفاهيم حول رفض نموذج النمو المتبع وتوجيه نقد قاس لمعاناة البشرية ككل في مجتمع الاستهلاك السطحي. وولد من هذا التقارب ما يمكن تسميته بالاشتراكية البيئية، التي يمكن تلخيص حلقتها المركزية بعدم رؤيتها لأي حل للأزمة البيئية في ظل الرأسمالية، بسبب ارتباط الأخيرة بزيادة الإنتاج والاستهلاك وانهماكها في الصراع العنيف على حصة في السوق وتراكم رأس المال وتعظيم الأرباح.

وتستمد هذه الاشتراكية معظم نسغها من الفكر الماركسي، سواء في تبني الاستيلاء على وسائل الإنتاج مع تحويل في القوى الإنتاجية يحد من استهلاك الطاقة ويقلل الأنشطة غير المهمة والضارة بالبيئة تمهيداً للخلاص منها، أو في اعتماد التخطيط الديمقراطي للاقتصاد والذي يجمع بين تلبية الاحتياجات الحقيقية للبشر واحترام التوازن البيئي للكوكب، أو في الدعوة لتخفيض جذري في ساعات العمل بغية توفير فرصة أكبر للبشر كي يطوروا قدراتهم الإبداعية، أو في السعي لتعبئة الشغيلة وتعزيز تنظيمها النقابي على طريق الخلاص والانتقال من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.

وأخيراً، يرى الكثيرون اليوم في هذا اليسار حلقة مهمة في سلسلة المشاريع المستقبلية المناهضة للرأسمالية ولاستغلالها البشع للبشر والطبيعة، وإنه مبعث تفاؤل وإرادة لا تذبل، يجّسد في زمن هيمنة اليمين، مقولة بريخت من أن أولئك الذين يقاتلون قد يخسرون، لكن أولئك الذين لم يقاتلوا قد خسروا المعركة بالفعل.