اخر الاخبار

في مشهد دراماتيكي، تبختر أباطرة التكنولوجيا الأميركيون في حفل تنصيب ترامب، ربما لإرهابنا بأنهم أقوى من الدول مجتمعة، فقيم سوق الأسهم التي يلهون بها تتفوق تماماً على الناتج المحلي الإجمالي الوطني، في وقت يتحكمون فيه بالشبكات المعلوماتية ويسيطرون على التفاعلات الاجتماعية، بدءاً من سك العملات الافتراضية وانتهاءً بغزو الفضاء.

لكن هذه الهيأة الطاووسية لم تستطع أن تستر خضوعهم التام لولي نعمتهم، المهرج الذي يتلقى منه جيف بيزوس، عشرات المليارات من الدولارات مقابل عقود شركة أمازون مع الحكومة الفيدرالية، والمستبد الذي يحمي مارك زوكربيرج، صاحب شركة ميتا (فيسبوك وإنستغرام وواتساب) من الغرامات الضخمة جراء انتهاكاته لقوانين المنافسة في أوروبا وأمريكا، والرئيس الذي يذلل كل العوائق أمام اليون ماسك لتهيمن شركة تسلا على إنتاج السيارات الكهربائية وسبيس إكس على الصواريخ ونيورالينك على صناعة رقائق الدماغ.

وإذا كانت تراجعات هؤلاء الأباطرة عن شعاراتهم "الديمقراطية" ودفاعهم عن "حقوق الانسان" تُناغم طبيعتهم الطبقية الإنتهازية والمتعجرفة في آن، فإنها تعني لليسار تغييراً في طبيعة العلاقة بين الدولة والرأسماليين، فبعد أن اعتدنا على أن السياسيين غالباً ما يُنتخبون ليعطوا هؤلاء الفرص لفتح أسواق جديدة، وضمان توفير العمالة الرخيصة والضرائب المنخفضة والحد من التضخم والدين العام وضمان الاستقرار النقدي، صرنا نجدهم مستبدين رجعيين يعمدون لإخضاع رأسمالييّ الثورة الصناعية الرابعة للسياسات حتى ولو بالتهديد المميت.

لقد حدث هذا بوضوح حين فقدت الشركات الأمريكية والأوربية أسواقاً هامة لها جراء فرض العقوبات على روسيا، فيما تعرضت الدول لأزمة طاقة حادة زادت من معدلات التضخم فيها وبالتالي عاشت تباطؤاً خطيراً في النمو. وها هي سياسة ترامب مع الأباطرة تؤشر إمكانية تكرار الكارثة لسببين مهمين، أولهما ما تعنيه دعوته للحد من الهجرة رغم الشيخوخة السكانية، من تجاهل للمباديء الليبرالية، وحرمان الشركات من الأيدي العاملة الرخيصة مما يؤدي إلى نقص العمالة في الزراعة وصناعة الفنادق والمطاعم والرعاية الصحية، وبالتالي يرفع الأسعار ويقلل الطلب. وثانيهما التدهور المتوقع لمكانة واشنطن الإحتكارية، ارتباطاً بخسارتها التدريجية لهيمنتها على تقنيات الإنتاج (فهي متفوقة الآن في المجال العسكري فقط) وعلى التمويل المُهدّد بتذبذب وضع الدولار وعلى القوة العسكرية جراء التفكك المتوقع في حلف الناتو.

إن هذه الإستنتاجات ليست أضغاث أحلام، بل معطيات واقعية على انتكاسة جديدة للإمبريالية المتعجرفة، تُستكمل بها التغييرات المهمة، رغم صغرها، والتي شهدها العالم في سنين قليلة، كارتفاع رايات "المد الوردي" في أمريكا اللاتينية، وطرد الأفارقة المستعمرين الجدد في حركات احتجاج شعبي وعسكري، واحتفال ملايين النيباليين بانتصار المقاومة المسلحة وإسقاط  الملكية، وتمكّن سيريلانكا من انتخاب رئيس يساري للمرة الأولى، وعودة قوى اليسار في أوربا لتدق بقوة جدران طغاتها، وإخفاق الإمبريالية في صراعها ضد النمو المضطرد لاقتصاد الصين واقتصادات عالم الجنوب.

وإذ تضاعف هذه المؤشرات مسؤولية اليسار، لا عن تمتين وحدته فحسب بل وعن تعزيز ثقة الشعوب بالغد، فإنها تفرض عليه وضوحاً فكرياً، يحدد به الأشكال المتطورة للحرية والعدالة الاجتماعية، والتي عليه أن يبتكرها في كل محطة يحقق فيها انتصاراً، وبرنامج تغيير فعّال يبدد القلق الشديد من الحرب ومن كل من يستخدم العنف وسيلة لممارسة السياسة ومن ضغوط الحياة اليومية ومن اشتداد التفاوت الطبقي ومن تخريب البيئة، ويتطلب امتلاكه لأدوات سليمة وجاهزة لإنجاز هذا البرنامج. ولعل في ما يجري اليوم ضد الأباطرة العراة وحلفائهم، بشارة تمنح أي حكومة يسارية منتخبة القدرة على التحدي بجرأة وثبات، واخضاع الجميع لرايات العدل والسلام.