اخر الاخبار

هناك شجرة عالية وأصلها ثابت أجلس تحتها وفي ظلها ومع نسائم العصر الجميل قبيل المغرب . وأحيانا كنت أتمدد على ظهري لأنظر إليها من أسفلها فيأخذني العجب في جميل قوامها ووافر أوراقها وعظيم أغصانها وأنا أتحسس امتداد جذورها العريقة تحت جريان دمي. حين تساءلت يوماً عمن زرعها ومتى ، قيل لي أنه أحد أجدادنا القدامى الذي خلدته هذه الشجرة، ويعرفه الناس كلهم ويترحمون عليه رغم أنهم لم يروه ولم يلتقوا به.

حين أعدُّ السنين والأجيال تكون هذه الشجرة قد بلغت التسعين عاما بالتمام والكمال. تساقطت أوراقُها مرات ومرات ، وهي هكذا راسخة شامخة. وكم من مرة أراد المستبدون الأغبياء من متجبري المناطق المجاورة قلعها من جذورها، لكنها أبت إلا البقاء، وحين كفَّ هؤلاء عن غاياتهم راحوا يجربون حظوظهم الدنيئة مع أغصانها، فتماسكت هي الأخرى وتشبثت بالأم وأحضانها.

قصة هذه الشجرة حقيقية وواقعية. تقع في أبي غريب على طريق عكركوف في ظهر نهر صغير لكنه عميق، تجري فيه المياه بسرعة لافتة غير أنها عند المرور بالشجرة كأنها تتريث قليلا. وهذا المفصل أيضا حقيقي وواقعي. ترى ماذا يقع في هذه النقطة بالذات من النهر كي تتوقف المياه قليلا، وتدور وتدور في سَوْرةٍ متموجة ثم تنطلق من جديد؟

وتلك هي قصتي مع الحزب الشيوعي العراقي أيضا. لم أكن أدري من هم مؤسسوه، وحين سألت عنهم قيل لي أنهم جيل الرواد، وتساءلت مع نفسي عن أسرار بقاء هذا الحزب / الشجرة عملاقا هكذا، ومن أين تأتيه الحياة رغم أن الطغاة جربوا حظوظهم مرات عديدة لقطع نسغ حياته وخبايا قوته وجبروته.

إن نهر الحياة الذي أبقاه ويبقيه حيّاً هو هذا العناق الساحر الغريب بينه وبين الناس. يمرون به يتريثون عند بابه واسمه وشعاراته، ليجدوا أسماءهم محفورة على جدرانه وأغصانه، وأن كل كلمة في دفاتره هي عنهم ولهم. يجدون في ضميره سجلات عذاباتهم وآفاق طموحاتهم ومصابيح دروبهم وأقفال عزائمهم، فيمنحونه الحماية ويسلمون رايته لأبنائهم ومنهم إلى أحفادهم وهكذا من جيل إلى جيل، حتى غدا أكبر شجرة وأعرق جذوراً متسلحا بكل أسباب الحياة وديمومتها المتجددة باستمرار دونما توقف.  للحزب سبل للبقاء في القلوب وفي الضمائر وفي صدر التاريخ. ترى هل هذه السبل جاءت عن خبرة؟ عن تجارب متراكمة؟ عن دهاء أو ذكاء؟ أم هو فن البقاء؟ أم هذا هو قانون الحياة: كن صادقا مخلصا نزيها، وبقدر هذا الصدق وذلك الإخلاص وتلك النزاهة تبقى لصيقا في وجدان الناس. وهنا تظهر لنا إشكالية جميلة: من يبقى فترة في ضمائر الناس يصبح جزءا من أجسادهم وأرواحهم، ثم ليستقر في عقولهم وأفكارهم.

سؤالي: هل هذا هو سبب تحمل الرفاق والأصدقاء والمحبين للحزب أنواع التعذيب حد الشهادة، وليس فقط الاضطهاد من أجله وبسبب انتمائهم له؟ نحن نتحدث هنا عن الشرف والغيرة والضمير. إنهم حتى وإن اضطرتهم الظروف أن يعتزلوا العمل في صفوفه، فإنهم يبقون عشاقا مخلصين له بأرواحهم وضمائرهم. الرفاق في المهاجر ألا يصلحون أن يكونوا نماذج لما أقول؟ بل دعوني أجازف لأقول أن حتى هؤلاء الرفاق الذين غادروا  ووقف بعض منهم على الضد من حزبهم في بعض الأحايين، هم في حقيقة دواخلهم يحبونه، ومواقفهم هذه هي غضب العاشق من معشوقه. لذلك لا نجد ردّا من الحزب على تصرفات البعض منهم. حيث يتصدى للدفاع عنه كل من تمدد يوما في ظله الوارف، وتغزل في اغصانه وأوراقه، وتدلت قدماه في نهر مائه البارد اللذيذ، وهو ينظر إليه مسحورا بجماله وجمال ظلاله.

هبَّ رجال ونساء المنطقة وشبابها للدفاع عن الشجرة العملاقة في كل مرة أراد المستبدون الطغاة قطعها من الجذور، بل حتى ولو مجرد المساس بأغصانها. نعم أحيانا أصابوا منها مأخذا مؤلما، لكنها نهضت من جديد واستعادت عافيتها وواصلت امتداداها شامخة نحو السماء، وأصلها ثابت تؤتي أكلها في كل حين. وصدقت في كل مرة مقولة مظفر النواب:

 ربَّ جرحٍ بما قطعوه تماسك صبراً وزادَ التصاقا

الحزب كما الشجرة يطعمنا من ثماره التي أنجبتها الأرض واختلطت بترابها وطينها ومائها. وحين تتلاقفها تلافيف الدماغ تتحول إلى مكون من مكونات خلايا الجسد والروح والعقل، وحين تُهضم الثمرات في جسم الإنسان تتحول إلى طاقة وقوة في الخلايا وتنقل معها حب التربة والماء اللذين نشأت فيهما. أليس أصلنا جميعا هو التراب وإلى التراب نعود؟

هنا يكمن سر الوطنية: نحن أبناء تربتنا ومياهنا، هنا نشأت أجسادنا وهنا نشأت أرواحنا، وهنا جبروت الحزب الذي يعرف أن هذه الأرض هي طريقنا، ومناكبها هي معارجنا، لذلك راح يبدع في صناعة الفكر المستنير بحاجات الفقراء، ليسير بنا نحو تحقيق أمانينا المتصلة بالخبز والحياة الكريمة.

في كل هذا نكتشف أن حب الناس للحزب مثل حب ذاك النهر، الذي يمر من تحت الشجرة العملاقة ويتوقف عندها قليلا، كي ترتوي وتستعيد عافيتها وتواصل الوجود والعطاء، وفي هذا سر البقاء تسعين عاما.

مبارَكٌ ضلعك التسعون يا أبتي.

مبارك ظلك الميمون والجنائن سيدي.

عرض مقالات: