رغم أن العراق يُصنَّف من بين أكثر بلدان المنطقة امتلاكاً لثروات الطاقة، الا إن ملف الغاز ما يزال يمثل أحد أضعف حلقاته وأكثرها إرباكاً، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء وما يحمله من زيادة في الطلب على الكهرباء.
فعلى مدى سنوات، لم يتمكّن العراق من استثمار ثروته الغازية الهائلة بسبب غياب الخطط الاستراتيجية وتراكم المشكلات الفنية والإدارية، ليجد نفسه مرتهنًا إلى الاستيراد الخارجي، وبالأخص من إيران، التي تشكّل موردًا رئيسًا لتشغيل محطات الكهرباء.
هذا الارتهان بحسب مختصين، جعل المنظومة الوطنية للطاقة في العراق عرضة لأي اضطراب سياسي أو تقني في الإمدادات، حيث تكفي أزمة عابرة أو قرار خارجي لإغراق البلاد في عجز كهربائي واسع.
ان ما زاد من تعقيد المشهد اكثر، هو فشل الاتفاق مع تركمانستان، الذي كان يُعد بارقة أمل لتأمين بدائل جزئية، لكنه اصطدم بجدار الرفض الأميركي والاشتراطات الصارمة لوزارة الخزانة في واشنطن.
وعلى هذه الحال يظل العراق محاصراً بين خيارات محدودة: إما الاستمرار في الاعتماد شبه الكلّي على الغاز الايراني الذي يخضع ضخه تبعاً لحجم الاستهلاك الداخلي، مع ما يرافقه من ضغوط سياسية ومخاطر انقطاع، أو الدخول في مشاريع بديلة تحتاج إلى سنوات طويلة وكلف مالية باهظة لإنشاء البنى التحتية اللازمة لاستيراد الغاز المسال من قطر أو عُمان.
مختصون بشؤون الطاقة أكدوا ان التحدي الحقيقي لا يقتصر على سد النقص الآني في إمدادات الغاز فحسب، إذ يتجاوز ذلك إلى سؤال استراتيجي أعمق: كيف يمكن للعراق، وهو بلد يملك احتياطات ضخمة من الغاز المصاحب وغير المستغل، أن يبقى عاجزاً عن تأمين احتياجاته الأساسية ويظل أسيراً لإرادات خارجية؟
شتاء قاسٍ
وتشير المعطيات المتوافرة إلى أن الكهرباء في العراق ترتبط بشكل كبير بالغاز المستورد من ايران، إذ يغطي ما يقارب 80 في المائة من احتياجات تشغيل المحطات. هذا الاعتماد يجعل المنظومة الوطنية شديدة التأثر بأي توقف في الضخ، حيث يمكن أن تخسر ما يقارب 10 آلاف ميغاواط من الطاقة المنتجة عند تعثر الإمدادات.
وفي مثل هذه الحالات، يتم اللجوء إلى اتخاذ إجراءات طارئة، إما عبر تقنين ساعات التجهيز وقطع التيار لفترات قد تصل إلى ثماني ساعات يومياً في بعض المناطق، أو عبر تشغيل المحطات بالديزل والمازوت، وهو خيار مرهق مالياً بسبب كلفته العالية.
لا حلولَ في الافق
من جهته، أكد الخبير النفطي حمزة الجواهري أن العقوبات الأميركية المفروضة على إيران ما تزال سارية المفعول، الأمر الذي يعقد الموقف ويحول دون استفادة العراق من ثروات الغاز الإيراني. وأضاف الجواهري أن الشركات الأميركية تسيطر على ما يقارب 80 في المائة من غاز تركمانستان، ما يضيّق خيارات بغداد في هذا الملف.
وقال الجواهري في حديث مع "طريق الشعب"، إن “الفشل الحقيقي يتمثل في عدم استغلال العراق لثروته الغازية الهائلة، سواء الغاز المحترق المصاحب للنفط أو الكميات الكبيرة التي ما تزال تحت الأرض، والتي كان من الممكن أن تزوّد نصف دول العالم لو جرى تطويرها”.
وأوضح أن “الخيارات المتاحة أمام العراق محدودة جداً في ظل هذه الظروف، ولا حل سوى المضي جدياً في استكمال مشاريع معالجة الغاز المصاحب والحقول الغازية الجديدة”. واشار الى أن “الاعتماد على الاستيراد من قطر يتطلب منشآت خاصة لتخزين الغاز المسال بدرجات حرارة منخفضة جداً تصل إلى 168 درجة مئوية تحت الصفر، وهو ما يحتاج إلى ثلاث أو أربع سنوات من العمل والتجهيز”.
وبيّن الجواهري، أن البرنامج الحكومي الحالي يخطط لتحقيق الاكتفاء المحلي من الغاز بين عامي 2027 و2030، فيما قد يستمر التوسع في الإنتاج حتى عام 2050، لكنه شدد على أن العراق “لن يكون قادراً على تعويض النقص الحالي إلا بتطوير موارده الوطنية بشكل كبير جداً".
العراق أمام معضلة غازية معقدة
من جهته، شدد عضو مجلس أمناء أكاديمية العراق للطاقة، د. إحسان العطار، على أن أزمة الغاز في العراق ليست وليدة اليوم، وممتدة منذ سنوات طويلة، مرجعاً ذلك إلى طبيعة الغاز العراقي الذي يختلف عن الغاز “الحر” المتوافر في بعض الدول مثل قطر، إذ إن معظم ما يُستخرج من الحقول العراقية هو غاز مصاحب لإنتاج النفط، ما يزيد من تعقيد استثماره بالشكل الأمثل.
وأوضح في حديث لـ"طريق الشعب"، أن “الموقف الأميركي يشكل عائقاً رئيسياً أمام خيارات العراق، فواشنطن لا تزال متشددة إزاء استيراد الغاز من إيران، وهناك أيضاً رفض أميركي لمساعي بغداد في استيراد الغاز من تركمانستان”.
وبيّن أن البدائل الأخرى المطروحة أمام العراق لا تخلو من صعوبات فنية وزمنية كبيرة، موضحاً بالقول: “استيراد الغاز من قطر يتطلب إنشاء منشآت متخصصة لتخزين الغاز المسال بدرجات حرارة منخفضة للغاية، وهذه المنشآت تحتاج إلى فترة لا تقل عن ثلاث سنوات لإنجازها، الأمر الذي يجعل من هذا الخيار غير عملي في الوقت الراهن".
واضاف بالقول، أن "خيار الاستيراد عبر سلطنة عمان يواجه عقبة غياب خط أنابيب ناقل، ما يفرض اللجوء إلى النقل عبر ناقلات بحرية خاصة، وهي بدورها تحتاج إلى موانئ مجهزة لاستقبال الغاز المسال، وهو ما يمثل عملية معقدة وصعبة التنفيذ حالياً”.
وأكد العطار أن “جميع الحلول المتاحة اليوم معقدة ومكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً، باستثناء خيار استيراد الغاز من تركمانستان، الذي يُعد من الناحية الفنية والاقتصادية حلاً ناجعاً، لا سيما أن تركمانستان لا تمانع في تزويد العراق بالغاز”.
لكنه شدد في المقابل على أن “العقبة الأساسية تكمن في الموقف الأميركي، وهو ما يتطلب من بغداد الدخول في مفاوضات مباشرة وجادة مع واشنطن، باعتبار أن لا بديل واقعياً أمام العراق سوى هذا المسار”.
وختم العطار بالقول إن “العراق يقف اليوم أمام معضلة غازية معقدة، وإن استمرار الأزمة من دون حلول عملية سيضاعف من أعباء الدولة ويحد من قدرتها على تلبية احتياجات قطاع الكهرباء والصناعة، مما يستدعي اتخاذ قرارات استراتيجية عاجلة تعكس حجم التحدي”.