اخر الاخبار

.. وللقصيدة قصة.. فالشاعر الراحل الذي أرّخها في أيار 1988، قدمها في السنة نفسها (في مهرجان المربد) الى الشاعر المغربي محمد الطوبي (الراحل الآن أيضا) ، الذي يبدو انه كان يعرفه ويأتمنه ، وطلب منه ان يأخذها معه (مكتوبة على ورق ومسجلة على كاسيت) حين يغادر عائدا الى بلاده.

ورغم المخاطر التي قد تتهدده اذا عثر أمنيو النظام عليها معه، غامر الطوبي ولبّى الطلب !

وحين وصل بأمان الى المغرب ، وصلت معه القصيدة ومنه تسلمها ابن عمة شاعرنا ضمير العاني، الذي كان وما زال حتى اليوم يعيش في المغرب.

ومن ضمير العاني تسلمنا هذا النص الشعري أخيرا شاكرين ، ومعنا ثقافية «الشرق الأوسط»، لننشرها سوية بعد 35 سنة من ولادتها! 

المنعطف

وعبرتُ الحزن

مزقتُ على ارصفة الليل شراعي

عدت أستلقي من الضحك على كل

الذي كنا وكان

جمراتُ الشعر والثورة في

التاريخ والاحرفُ في الراية

والاوتار في القيثار

والبُحّةُ في صوت المغني والاغان

لا الأسى يخنقُ صوتي، لا براكينُ الغضب

كل ما لذتُ به يوماً، بيوتٌ من قصب

كل ما أضحكَ او أبكى مرايا ولعب

يا زمانَ التيه في عقل العصافير مضى ذاك الزمن

ها انا مملكتي الصمتُ وبوابةُ حزني مقفلة

ودروبي أينما يمّمتُ وجهي مستحيلة

في دمي يصرخ ثعبانٌ الى متكأٍ لن أصله

في شفاهي يذبل الوردُ وتبكي السنبلة

فأتركي لي باقة النسيان في سلّة روحي المثقلة

ما انا وهمٌ تخطاك وما انت بخيلة

تعب الوردُ من الطَلَّ، وناء الغصنُ بالاوراق

ضاق الأفقُ بالاجنحة المنتقلة

عُصرت كلُ العناقيد ومال النهر عن مجراه

وأبيضّت عيونُ البرتقال

يبس الصدر وما درّ حليب الثدي بالرضعِ

واستلقى من القهر الرجال

واستحال الثلج اكواماً من الطين

وتلاً من رمال

غير ان الأرضَ ما ضاقت بموتاها وما زالت

تدور المقصلة

في عراء الدرب ألقيتُ وراء الباب ظلي، وتركت

الغابَ والنهر ورائي

والضفاف

ودخلت المعبدَ النائي

تربعتُ على الأرض

لمستُ الخشب البارد والكرسيّ

مهجوراً بركن الاعتراف

قلت يا سيدي الكاهن صليتُ بلا قلب

وغنيتُ بلا صوت

وحاربتُ بلا سيفٍ

ومُتُّ

مرةً في شارع النهر امام امرأة شاحبة الوجه

ركعتُ

مرة في غرفة التعذيب في السجن

بكيتُ

مرة من اجل طفل جاحظ العينين في الدرب

سرقتُ

مرةً في المعركة لم اكن اعرف

من يقتل من

من اجل ماذا

فهربتُ

حاكموني، قطّعوا لحميَ اوصالاً

رأيت الله في وجهيَ يبكي، فبكيتُ

غير اني كلما غيّبني قبرٌ عميق، وصرختُ

سحبوني دونما ذنبٍ الى محكمة الصبر

وشقوا كفن الأموات عني وبُعثت

ها انا يا سيدي الكاهن، ارجو الصفحَ والغفران

من غير خطيئة

فنهاراتي ضياءٌ، ولياليّ بريئة

اسأل الربَ ولو شبراً من الأرض

يواريني به حيث ولدتُ

ها انا، ها انتِ، وجهان على المسرح 

في احدى الزوايا

عافنا المخرج بين الظل والضوء عرايا

ترتدي اشباحُنا الصمتَ، وتُخفي الأقنعة

لعبةً في مسرح التهريج، ما بين المرايا

حسناً، نحن بلا ارضٍ، ولا وجهٍ، ولا إسمٍ

ولا تاريخْ

ألقانا جناحُ الزوبعة

وبدأنا اللعبةَ

انت المخرجُ الحاذق والناقدُ

انت المسرحيةْ

وانا الشاعر والأشعار، والجوقة والعاشقُ

يبكي والمغني

وانا القاضي، انا الشاهدُ

والمتهمُ الغائب في كل قضية

يركع الحاجبُ: يا سيديَ القاضي

لقد جاءت وفودُ العدل، والمتهمُ الثاني

وسيّافُ العدالة

من هو المتهم الثاني

هو الجمهور يا سيدي القاضي

وها جاء الملقّنْ

تبدأ الجلسةُ نصفَ الليل: باسم العدل والقانون

والرمزِ الذي يحكمنا الربُ خلاله

ينتهي المشهدُ بالاعدام للشاهد والقاضي

وبالحجز على المتهم الثاني، وبالحبس لقيثار المغني

وبجلد الشاعرِ المجنون والعشاقِ في مملكة الله ودفنِ المسرحية

وعلى الناقد والمخرج، قانوناً، رسومُ البلدية

وعلى أجهزة التنفيذ اغلاقُ القضية.

لك وجهان

 فوجهٌ يمنح للعين براءته

يمرح كالاطفال

ويرقد في الليل جميلاً ونهائياً

والثاني

يملأه الضجرُ

قل لي كيف أشوفُ الضلعَ

الثالث في منحنيات

الخيبة والقهر، تعكس للضحك المتماوج

كيف ألمُّ الصدقَ من الوجهين

لك قلبان، فقلبٌ للغضب المر

تنوح به الريحُ وتسكنه النار

ويُذكيه الشرر

والآخر كالموج رخياً

يسبح فيه القمر

ايّهما ينأى لو عدتُ اليك

وايهما ينتظر

سأظل اوزع دربي بين الدربين

وامنح نبعَ جراحي للقلبين

لي صوتان

صوت للهمس يقدم أوراقاً رسمية

للحراس الوطنيين، وللباعة في أسواق اللحم البشري والتجار

والصوتُ الآخر، مخبولٌ، للثورة والثوار

يا أمرأةً

تعرفُني وجهين ولا تُبصرني

تُصغي للاصوات على شفتي ولا تسمعني

تسكن نبضَ القلب ولا تعرفني

نحن غريبان نلوذ ببرد الصحراء

نحن طريدان بلا أسماء

نهرب في عُري خطانا

من أقنعة المدن

هذا زمنُ العشقِ الكاذب

خليني عند محطات الليل، وحيداً

منتظراً زمني

أيار 1988