تعيش المنطقة أوضاعا صعبة ومعقدة، وتتقاطع فيها مصالح متعددة وتوجهات متعارضة، وهي في العموم أوضاع ذاهبة الى مزيد من التشابك والتعقيدات على ما يبدو.
المنطقة تغلي على نار هوجاء، ولعل من نافل القول الإشارة الى ان من الصعوبة بمكان تصور أن تستقر أو تهدأ قبل ان تنال شعوب المنطقة، وخصوصا شعوب البلدان العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، حقوقها، وتؤمن مصالحها وتعيش أجواءَ الاستقرار، وتنعم بمواردها، وان يتحقق قدرٌ معقول من العدالة الاجتماعية، في ظل أنظمة تحترم حقوق الانسان، والقطيعة مع كل مصادر التخلف، والتفاوت الاجتماعي والطبقي الكبيرين في مجتمعاتنا.
وبالعودة الى تاريخ المنطقة يتبين بجلاء ان أهل المنطقة لم تترك لهم يوما الفرص كي يختاروا وفقا لإرادتهم الحرة، وإنْ توفرت لهم فلم يحسنوا استخدامها وإدامتها! وعلى الدوام كانت العناصر الخارجية فاعلة ومؤثرة في ترتيب الأوضاع فيها، وغالبا ما يحصل تشابك بين تلك العناصر الخارجية وأخرى داخلية تساوم وتغلّب قضايا أنانية على حساب الصالح العام، جاعلة مصالحها ومَنْ تمثل هي وكذلك نفوذها والانطلاق
ـ قبل كل شيء ـ من مبدأ الحفاظ على كرسي الحكم!
هنا، نتحدث عموما عن الحكام الذين ابتليت بهم شعوب المنطقة، وظلوا يلحقون بها الأذى والضرر حتى يومنا هذا. انما يتماهى هؤلاء الحكام مع الخارجي ويحسبون حسابه أكثر من اهتمامهم بإرادة شعوبهم.
وهذا ما حصل سابقا وما يحصل ارتباطا بالتطورات الجارية في ما يخص قضية فلسطين؛ فردود الفعل تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني على المستوى الرسمي ظلت منضبطة ذاتيا، وكأن هناك من رسم لها خطا أحمرَ عليها ألا تتجاوزه. وفي المقابل نشهد هذا التمادي من قبل أمريكا وحلفائها، والتدخل الفاعل المنحاز للعدوان، والسعي لتبريره وإدامة روح الانتقام والقتل.
لقد كشفت التطورات من جديد زيفَ وكذب ادعاء هذه الدول بانها تقف مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام خياراتها وحقوقها. وكل يوم تثبت هذه الدول عمليا ان مصالحها وسياساتها فوق كل اعتبار.
وزيفا وكذبا تقول هذه الدول بانها مع حل الدولتين، وفي الواقع لا يعني لها ذلك إلا إسرائيل آمنة وقوية، ولها مطلق اليدين في إقامة المستوطنات وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية؛ بحيث ان مساحة الدولة الفلسطينية المراد إقامتها لا تتعدى الـ 23 في المائة من مساحة فلسطين الأصلية، إضافة الى أنها مقطعة الأوصال!
مواقف هذه الدول المتمادية والداعمة للعدوان وجرائمه تعد مشاركة فيها، وهي بالضد من كل الالتزامات والأعراف والقوانين الدولية التي يحري ضربها عرض الحائط.
من دون شك أن من مصلحة شعوب المنطقة أن يسود السلم الوطيد والعادل، بديل القتل والخراب والتدمير، ولكن كيف يتحقق ذلك مع استمرار ظلم وقسوة وهمجية العدوان الصهيوني المتواصل منذ ٧٥ سنة؟
ما يحصل اليوم يتطلب مراجعة شاملة لاوضاع المنطقة، واستخلاص الدروس منه، وفي المقدمة ان حالة الانتظار لم يعد لها معنى، وان المعجزة لن تأتي من حالها. وعلى شعوب المنطقة ان تدرك جيدا بان القادم قد يكون أسوأ إنْ لم تبادر هي الى أخذ زمام المبادرة. وفي مقدمة ما يتوجب عمله الوقف الفوري لحالات النزاعات البدائية وتحقيق الوحدة الداخلية المبنية على أساس المواطنة الحقة، وعقود اجتماعية تشكل قطيعة مع ما ساد وسبب هذا التدهور المريع على مختلف المستويات، واضعف كثيرا مقومات البناء والتقدم، وبدّد الثروات والتصدي للمشاريع الخارجية التي تريد ادامة نفوذها وهيمنتها عبر تشجيعها على استمرار حروب ونزاعات لا مصلحة لشعوب المنطقة فيها.
ومن دون ريبٍ، فإن مواطن الضعف تكمن أساسا في المنظومات الحاكمة واستعدادها للمساومة على حساب مصالح شعوبها. وهو ما يتجلى اليوم في المواقف الرسمية التي لا تتجاوز التنديد اللفظي الشكلي بالعدوان الهمجي.
هذا المشهد يتكرر من عشرينات القرن الماضي، أما آن الأوان لقطع هذا المسلسل التراجيدي، وتفعيل عناصر القوة والتمكين لفرض إرادة الشعوب ونيل حريتها وحقوقها كاملة؟