شهدت العقود الماضية، سواء إبان الحرب الباردة أو بعدها، صراعاً حاداً بين خندقين، يرى الأول في الرأسمالية واحة للإبداع الفردي والدافع الرئيسي لانطلاقه بلا قيود، فيما يعتقد الثاني بأن الاشتراكية التي تفتح المدى لبناء مملكة الحرية الحقيقية، هي الواحة المبتغاة.
لقد ادّعى أنصار الرأسمالية طويلاً، بأنها وبسبب تشجيعها للمنافسة المستمرة، تجعل الناس يكتسبون مهاراتٍ إبداعية ويُطوِّرونها، فاتحين السبيل لتقدُّم البشرية، ولهذا فالإبداع كفعل فردي يستدعي أن تعود نتائجه المادية على منتجيه فقط.
لكن لليسار رأياً مختلفاً، فهو يؤشر ما تتسم به الرأسمالية من تناقض لا إنساني، يتمظهر في تعايش التقدم السريع للتكنولوجيا والعلوم، والذي هو شرط أساسي للتحرر النهائي للإنسان ولهيمنته الايجابية على الطبيعة، مع تفاوت طبقي بشع ومع تخلف فكري مريع، تُوظف كل وسائل الإعلام والاتصال لتكريسه، عبر إشاعة الخرافات والتشجيع على التعصب والانغلاق والعنف والإباحية والأنانية والسادية وتعاطي المخدرات والكحول، والدفاع عن انحطاط الأخلاق وتدمير الإبداع وتسليعه وتسفيه العلاقات الأسرية، وذلك كله بغية تشويه وعي الناس حتى يمكن قولبتهم ومنع تثويرهم.
ويرى اليسار بأن من أكثر السمات التي تُميِّز الرأسمالية كنظامٍ اجتماعي هي فصل العمل الذهني عن العمل البدني المباشر، وخلق أشكال متنوعة من الوظائف الرقابية، للتأكُّد من تأدية الناس للعمل المفروض عليهم، مهما كان قاسياً أو مملاً. ولما كانت أفكار الفرد الإبداعية، لا تأتي بالوحي من الفضاء الخارجي، بل هي نتاج المجتمع الذي ينشأ فيه، بما فيه من مؤسسات تعليمية وصحية ومعيشية وترفيهية، وما تسوده من قيم واعتبارات وخبرات وتجارب، يرى اليسار بأن الهدف من النتاج الإبداعي يجب أن يكون تلبية احتياجات البشر الثقافية، وليس مراكمة الارباح، وإن القوة الدافعة لتطوير النتاج، ينبغي أن تكمن في التنافس على تقديم هذه الخدمة، وليس على المردود المادي. لقد بات معروفاً بأن حجم الاستثمار في تطوير الموبيلات يعادل آلاف أضعاف ما يتم رصده لدعم النتاج الثقافي لأن شركة سامسونج مثلاً تربح 52.7 مليار دولار في العام فيما لا تحقق مبيعات الكتب الجادة أرباحاً تذكر.
ومع عدم إغفال الحاجة لتجنيب المبدع كل ما يقلقه، كالركض وراء لقمة العيش أو الخوف من خطر تجاوز التابوات، يدعو اليسار لتحسين حياة المتلقين المادية والثقافية وتوفير كل ما يضمن تنمية مواهبهم واستمتاعهم بالمنجزات الابداعية للبشرية، فالتطور الحر لكل فرد، شرط للتطوُّر الحر لجميع الأفراد.
ومما هو جديد لدى اليسار اليوم بهذا الصدد، دعوته إلى النص الحر، فلكي يكون النتاج الإبداعي ثورياً ومؤثراً يجب أن يكون جميلاً. إن ما يستطيع النص المبدع انجازه في مواجهة الفاشيين والظلاميين والمستغلين وخلق الوعي ضد ما يسببونه من خراب، يفوق كثيراً قدرة المباشرة والشعاراتية على ذلك.
ولعلي لن أغالي إن قلت بأن هذا الجديد هو نفض للغبار الجدانوفي – الستاليني، عن الممارسة الإبداعية للماركسيين، ولماركس الذي لم يك ينشر أي شيء مالم يعالجه مضموناً وشكلاً لمرات عديدة، حتى تناغمت تماماً في نتاجاته، قيمتها الأدبية مع قيمتها العلمية.
وأخيراً، يؤمن اليسار بأن الاشتراكية، التي ستقضي على كل ما جعل الإنسان عبدًا وتعيد اليه قدرته على التحكم بكل ما وضعته الرأسمالية خارج إرادته، هي الأقدر على نقل البشر من مملكة الحيوانية إلى مملكة الآدمية، وكنس الرأسمالية التي سممت حتى الهواء الذي نتنفسه والماء الذي يروينا.