اخر الاخبار

 يستذكر الشيوعيون وكل اليساريين في شباط من كل عام، أحداثاً مريرة وقاسية على القلب والذاكرة، تلك التي شهدها العام 1963، حين أقام أذناب الأمبريالية الأمريكية، حمامات دم ضد خيرة أبناء شعبنا، من الشيوعيين والديمقراطيين التقدميين وكل الوطنيين، وفي طليعتهم الرجل الإسطوري سلام عادل.

وإذا بدا طبيعياً أن تحمل الذكرى الدموع إلى المآقي وأن تحبس في الصدور الحسرة، فإن مأثرة الشيوعيين في المواجهة، كمنت في قدرتهم على استبدال نواح الفقد بنغم يطلق شّميم الفعل والصدق والحب، ويمحو عن جبين الوطن أنين الحزن ويكلله بوشاح الفخر، ويحّول ملتقيات العزاء لوقفات تأمل، يتجسد فيها الشهيد الشاهد، كلمات في الأفواه، تحملها الأيدي لتصير فعلاً للتغيير، ولصلاة تطّهر ووفاء ووقفات وحدةِ وتعاضدِ، يثب فيها الثوريون نحو المرتجى.

ورغم هذا، فقد كانت لتلك الأحداث مذاقات أخرى أيضاً، تبقى تشكل عبراً متمّيزة، منها ما بقّي مؤلماً ومنها ما كان منعشاً وما زال. مذاق التحدي، في عيون صبايا وفتية، عزّل من السلاح، يواجهون قطعاناً من الذئاب المنفلتة، غير آبهين بأشداقها القذرة التي أطبقت على عنق الوطن. مذاق الثقة الثورية، إذ بقي أولئك المنهكون المدميون يرون حلمهم بهّياً ومشرقاً رغم الحرائق التي أتت على جدران البيت وسقوفه. مذاق الوطنية الأصيلة، رغم الظلمة التي استباحت الوطن وأثخنت جسده بجراحات عميقة، لم تندمل بعضها رغم كل هذه السنين. مذاق التواضع الشيوعي، الذي تعّمدت به الأرواح، فتحررت من محبس التفاصيل المادية لتنطلق في فضاء الغد الجميل. مذاق الانصهار في الفعل الثوري، حين نذر أولئك الزهاد كل وقتهم وجهدهم لقضية الحزب والشعب مجّسدين ما كتبه لينين يوماً عنهم، بأنهم لا يكرسون للثورة أمسياتهم فقط، بل كل حياتهم. وأخيراً، مذاق الجرأة والتضامن، الذي شكّل سر صمود وديمومة الحزب، وأداته لمعالجة العلل متى ما نفذت إلى صفوفه.

وقريباً من كل هذه المذاقات المنعشة كانت هناك مذاقات مرّة، تلك التي سببتها ظروف خارج إرادة الناس، أو تلك التي نمت في زوايا حجبها القصور وأخفتها الأخطاء. غربة حقيقية بين سلطة 14 تموز 1958 وبين أصحاب المصلحة في الثورة من العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، جراء حكم فردي، أُفرغت بسببه المنجزات من محتواها. قاعدة نظام رجعي أسقطته الثورة، بقيت ممسكة بخناقها، ممهدة الأرض للقطار الأمريكي المعبأ بالبعثيين والشوفينيين كي يوصلهم إلى السلطة. شرائح من البرجوازية الوطنية تتبنى موقف الحياد، بين ممثليها وبين الفاشست، فقط لبغض متأصل لليسار وللعدالة الاجتماعية. حلفاء يعطون الأولوية لمصالحهم بعيدة المدى، فينصحون بعقلانية، لا يربطها شيء بالفعل الثوري. تلكؤات في تشخيص طبيعة المرحلة والتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية فيها، وما أصاب الوحدة جراء ذلك، من جروح اضعفت نسبياً انضباط البعض ودفعته للتركيز على الكم في توسيع القاعدة، ناسياً ربما شعار لينين (أقل شرط أن يكون أحسن)، مما ساعد على تسرب من يفتقدون لإشتراطات الكفاح الطبقي لصفوف اليسار. رؤية غائمة للعلاقة التفاعلية بين الفكرة والخط السياسي والحياة الداخلية. تشاغل عن إعداد كوادر، تُحْسن تعبئة وقيادة الجمهور. تغافل لا معنى له عن المخاطر الجسيمة لضعف الهوية الوطنية الجامعة، وعن دور المخربين من الجيران والأقرباء، وعن التمسك بالحرية والتداول السلمي للسلطة. 

في شباط من كل عام، لا نستذكر بفخار بلا حدود، الشهداء من الرفاق والأصدقاء والوطنيين، ونضع على قبورهم زهوراً حمراء، شارة للخلود فحسب، بل ونبقي الحزب، الذي بنوه واداموا بنيانه، نبضاً في الأرواح، ونعلّم الأجيال كيف بقيت قامات الشيوعيين عصّية على الإنحناء ومشاعلهم مفعمة بالصدق والحنين.

عرض مقالات: