اخر الاخبار

كشف فرار بشار الأسد وأعوانه، وانهيار الأجهزة الأمنية والإعلامية التي كانت دعائم لحكمه، وتخلّي الحزب الحاكم عن قيادته، بجلاء عن هشاشة الأنظمة التي تعتمد على القمع والقوة، بدلا من بناء شرعية حقيقية تستند إلى رضا الشعب. وهذه اللحظة الفارقة، رغم أهميتها التاريخية، تحمل في طياتها قلقا مشروعا. فكثيرا ما أثبتت التجارب أنّ نشوة الانتصار قد تتبدد سريعا، إذا غابت الرؤية الواضحة لمرحلة ما بعد التغيير.

عندما تتمكن الشعوب من إسقاط أنظمة الاستبداد، لا تنتهي مهمتها بإطاحة رأس النظام أو تبديل الوجوه. فالتغيير الجذري الحقيقي يقتضي اقتلاع البُنى الفاسدة التي كانت تُغذّي سلطته، وهي ليست من مجرد أشخاص أو شبكات مصالح ضيقة، بل منظومات متغلغلة في مؤسسات الدولة، تستنزف مواردها وتُعزّز الاستغلال. وان أيّ تغيير يتجنب مواجهة هذه المنظومات بجرأة وحسم، سيؤول حتمًا إلى فشل يعيد إنتاج الفساد تحت شعارات جديدة.

والتغيير، كما تُظهر التجارب، لا يأتي دون ثمن. والمرحلة الانتقالية، خاصة في الحالة السورية، غالبًا ما تكون الأكثر تعقيدا وخطورة. ففراغ السلطة بعد انهيار النظام يفتح الباب لصراعات داخلية على السلطة والنفوذ، تُغذّيها تدخلات القوى الإقليمية والدولية، مما يضع الشعب أمام تحديات لا تقل فتكا عن الاستبداد ذاته. وهنا تبرز الحاجة إلى مشروع وطني جامع، يرتكز على بناء الدولة الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية، مع محاسبة عادلة لكل من تلطخت أيديهم بجرائم النظام السابق.

رغم ذلك، يظل القلق حيال مستقبل سوريا حاضرا. إذ إنّ الفوضى الناتجة عن غياب التخطيط المسبق، قد تُفضي إلى إعادة إنتاج أشكال جديدة من الاستبداد، أو ترك البلاد رهينةً للنفوذ الخارجي والانقسامات الداخلية. وان إدراك هذه المخاطر والوعي بها هو الخطوة الأولى نحو مواجهتها بحكمة ومسؤولية، لضمان أن تتحول لحظة التغيير إلى فرصة لإرساء أسس العدالة والكرامة، لا مجرد محطة عابرة في مسار المعاناة المستمرة.

ويبقى عصياً على الفهم عجز الحكام المستبدين عن استيعاب دروس الماضي، أو حتى قراءة ما يجري حولهم. إذ يتوهم هؤلاء أن القمع قادر على تأبيد سلطتهم، متجاهلين أن الشعوب قد تصبر طويلا، لكنها تتحرك في النهاية لتنتزع حقوقها وتسقط أقنعة الطغاة. فسقوط الأنظمة الاستبدادية ليس نتيجة لمؤامرات خارجية كما يزعم البعض، بل هو نتيجة طبيعية لتراكم الغضب الشعبي إزاء عقود من الظلم والفساد والاستغلال.

الأنظمة المستبدة تعيش في وهم القوة وتغفل حقيقة أساسية: حقيقة ان الشرعية الحقيقية لا تُشترى بالذمم ولا تُفرض بالقمع. إنما تُبنى عبر العدالة الاجتماعية، والمساواة، واحترام الكرامة الإنسانية. وحين تغيب هذه الشرعية، يصبح النظام هشا مهما بدا متماسكا في لحظات جبروته.

ان النصر الحقيقي للشعوب لا يتحقق بمجرد إسقاطها النظام المستبد، بل في قدرتها على بناء بديل يُجسّد طموحاتها في العدالة والحرية. وهذا يتطلب وحدة الصفوف، ووضوح الرؤية، وتحمل المسؤوليات بشجاعة.

الشعوب قادرة على اجتراح المستقبل، أما الأنظمة المستبدة، فهي عالقة في دائرة الوهم حتى يسقطها التاريخ.