ما يجري في غزة ليس مجرد حرب أخرى في سجل الصراع الطويل مع المشروع الصهيوني، بل هو عملية إبادة شعب ممنهجة تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وإجبارهم على الهجرة إلى مصر والأردن، في تكرار مروع لنكبة عام 1948. وهذه ليست مجرد جريمة حرب، بل هي أيضا جريمة ضد الإنسانية، تُنفذ على مرأىً ومسمعٍ من العالم دون أي رادع حقيقي، وكأن الفلسطينيين مجرد فائض بشري يجوز التخلص منه بصفقة سياسية أو بضغوط عسكرية.
وما يزيد الأمر فظاعة هو أن هذا المخطط لم يعد مجرد هاجس، بل صار خطاباً يمينياً فاشياً معلناً، مدعوماً بمواقف سياسية مكشوفة، كان آخرها تصريح ترامب المعروف الذي لم يُقابل برد عالمي حاسم يليق بحجمه. بل على العكس، تم التعامل معه ببرود يعكس انحطاط المنظومة الأخلاقية للسياسة الدولية، حيث يُسمح لمجرمي الحرب بتحديد مصائر الشعوب، بينما تُسلب حقوق الضحايا بذرائع أمنية وباسم مصالح استراتيجية.
إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد قصف وتدمير، بل هو عملية منظمة لاقتلاع أسس الحياة، ودفع الفلسطينيين نحو أحد خيارين: الهجرة أو الموت. فتدمير المنازل، والمستشفيات، والمدارس، والبنى التحتية، ومنع دخول المساعدات، كلها أدوات إبادة تمارسها إسرائيل بغطاء أمريكي وتواطؤ غربي. وما يزيد المشهد قتامة هو صمت الدول العربية، التي كان يفترض أن تشكل حاضنة للموقف الفلسطيني. لكنها اليوم تبدو عاجزة، أو في بعض الحالات، متواطئة مع الطرح الذي يسعى إلى جعل غزة منطقة غير صالحة للحياة، فيدفع أهلها إلى الفرار تحت وطأة الجوع والرعب.
إن إجبار شعب بأكمله على الهجرة ليس مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، بل هو خنجر مسموم في قلب القانون الدولي، وضربة قاصمة لمبدأ تقرير المصير، الذي لم يكن يوماً مجرد شعار، بل حقاً أصيلاَ دفعَت الشعوب أثماناً باهظة لنيله. والفلسطينيون، مثل أي شعب آخر، لهم الحق في البقاء على أرضهم، والعيش بكرامة، ومقاومة مشاريع الإبادة بكل الوسائل المشروعة.
ان ما يحدث اليوم يضع الضمير العالمي أمام امتحان حاسم: فإما أن يثبت أن القيم التي يتشدق بها ليست مجرد غطاء للمصالح الاستعمارية، أو أن يعترف علناً بأنه مجرد أداة لتبرير الظلم وإدامة الاحتلال. وإذا كان البعض يعتقد أن الزمن كفيل بطمس القضية الفلسطينية، فهو واهم، فالشعوب لا تنسى، والتاريخ لا يرحم المتخاذلين. وكما ناضلت شعوب كثيرة عبر التاريخ ضد الاحتلال والتهجير، سيظل الفلسطينيون يقاومون حتى يستعيدوا أرضهم وحقوقهم، لأن حق الشعوب في تقرير مصيرها ليس منّة من أحد، بل هو قانون الحياة ذاته.