لا يبدو العالم بحاجة إلى مزيد من الأدلة على تخبط ترامب وتهوره، لكن الأيام الأخيرة جاءت لتؤكد أن الرجل ليس مجرد رئيس أمريكي تقليدي، بل هو تجسيد فجّ لنزعة رأس المال المالي المتوحش، الذي يرى في السياسة أداة للهيمنة والاستئثار، وفي الشعوب وقوداً لمشاريعه التوسعية. فهو يمثل ذروة التلاعب الإمبريالي بمصائر الدول وشعوبها، ويُدير علاقات واشنطن الدولية بمنطق المضاربات والمقامرات، لا وفق استراتيجيات سياسية رصينة.
في لحظة واحدة، كشف ترامب عن هشاشة موقع الولايات المتحدة بين حلفائها، وجعل أوروبا تدرك أن حليفها التاريخي لم يعد أكثر من تاجر نفوذ، مستعدٍ للمغامرة بأمن الجميع مقابل تعزيز شعبيته الداخلية. فما إن أطلق تصريحاته حول "احتلال غزة" و"تهجير الفلسطينيين"، حتى انقلب المشهد الدولي رأساً على عقب، وانهالت عليه الإدانات حتى من أقرب حلفاء واشنطن.
ولم يكن الجانب البريطاني يحتاج وقتا طويلا ليظهر تململه من جنون ترامب، إذ سارعت لندن إلى إعلان رفضها الصريح لمخطط التهجير، مؤكدة التمسك بحل الدولتين. وبدا ذلك وكأنه رسالة ضمنية بأن أوروبا لم تعد ترى في واشنطن زعيماً موثوقاً، وأن مصالحها لم تعد تتماشى مع السياسات الأمريكية التي تُدار بتهور شديد.
أما ألمانيا، التي خبرت عواقب النزعات الفاشية، فقد سارعت إلى إدانة التصريحات بوصفها "محرضة على الكراهية"، محذرة من أنها ستؤدي إلى تصعيد أوسع للصراعات. وجاء الموقف الفرنسي أكثر وضوحاً وحدةً، فلم يكتفِ برفض التصريحات، بل اعتبرها "غير مسؤولة"، في إشارة إلى أن باريس لم تعد تتحمل صبيانية السياسة الترامبية.
في المقابل، تبنّت إسبانيا والبرازيل مواقف أكثر حسماً. فالأولى أكدت اعترافها بالدولة الفلسطينية، بينما لم تفوت الثانية فرصة السخرية من ترامب، الذي بدا وكأنه يتحدث من فراغ، منفصلاً عن الواقع الجيوسياسي. أما إيطاليا، فاختارت تفكيك المشهد من زاوية القانون الدولي، مشيرة إلى أن ترامب يتعامل مع العالم وكأنه "غابة بلا قوانين". بينما استغلت كلٌّ من الدنمارك وكندا الفرصة لتذكير العالم بسلسلة تصريحاته المجنونة، من التهديد باحتلال قناة بنما، إلى ضم جرينلاند، إلى جعل كندا ولاية أمريكية!
وسط هذا الرفض الدولي الساحق، بدأ ترامب بالتراجع والالتفاف على تصريحاته، محاولاً امتصاص الغضب بعبارات مراوغة. في البداية، قال إن فكرة احتلال غزة لم تكن سوى "مجرد اقتراح"، وكأنه يسوّق لمشروع عقاري على ساحل المتوسط! ثم حاول الظهور بمظهر المعتدل حين تحدث عن "حرية الفلسطينيين في الاختيار"، قبل أن يعود لنبرة التهديد، مشيراً إلى أنهم "سيبقون داخل غزة" إن لم يتمكن أحد من تأمين "ملاذ بديل لهم"، في تكرار لخطاب التطهير العرقي لكن بصياغة أكثر مواربة.
هذا التخبط ليس جديداً على ترامب، فهو ذاته الذي هدد بإرسال قوات أمريكية إلى غزة، ثم تراجع، كما فعل مع تهديداته السابقة للمكسيك وكندا. وهو ذاته الذي صدّق أن بإمكانه فرض إرادته على العالم بمجرد التغريدات والتهديدات الجوفاء.
لكن المشهد اليوم يختلف عن الأمس. فأوروبا لم تعد ترى في واشنطن ضامناً لاستقرارها، بل باتت تدرك أن ترامب، ومن ورائه رأس المال المالي الأمريكي، لا يهدد "أعداءها" فحسب، بل يهدد أيضاً التوازنات العالمية التي تستفيد منها. أما الصين وروسيا، فقد أكدتا رأيهما أن واشنطن باتت قوة متخبطة، غير جديرة بالقيادة العالمية، وتتحرك بمنطق الابتزاز أكثر من منطق الشراكة.
ترامب، الذي طالما قدّم نفسه كصانع صفقات بارع، يجد نفسه اليوم متراجعاً عن تصريحاته بنفس السرعة التي أطلقها بها. وما يبدو جلياً أن سياساته لم تُعزز موقع أمريكا، بل سرّعت في كشف الطبيعة الحقيقية للهيمنة الإمبريالية، التي تسعى لتطويع العالم لخدمة رأس المال المالي، دون اكتراث بالشرعية الدولية أو حقوق الشعوب.
قد يحاول ترامب، كعادته، الالتفاف على أزمته بطرح مزيد من الشعارات العنصرية، أو افتعال معركة جديدة تشغل الرأي العام عن فشله، لكن الزمن ليس في صالحه. فالسقوط التدريجي للهيمنة الأمريكية لم يعد مجرد تحليل نظري، بل هو واقع يتجلى يوماً بعد آخر.
وفي النهاية لا يمكن وصف هذه الفوضى الا بعبارة واحدة: الطاغية يقع في شرّ أقواله.