تحوّل رمضان في العراق إلى مرآة للفجوة الطبقية الصارخة، تجسد الهوة العميقة بين من لا يجد قوت يومه، خاصة سكان العشوائيات الذين يقرب عددهم من 4 ملايين نسمة، أي ما يعادل 8-10% من سكان العراق، وفقاً لإحصائيات وزارة التخطيط. هؤلاء يقيمون في نحو 4,679 تجمعاً سكنياً عشوائياً، محرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة، بينما تستحوذ قلة مترفة على ثروات البلاد، وتبذّرها في موائد الترف والبذخ.
يتجلى المشهد المؤلم في الأسواق الشعبية: عائلاتٌ تبحث عن أرخص السلع، تزن حاجاتها بميزان فقرها قبل الشراء، وتحسب حساب كل لقمةٍ على مائدة الإفطار. بينما في المقابل تقام ولائم لم تشهدها حتى قصور يزيد بن معاوية، كما تنقل روايات سيرته.
في العراق يعيش الفقراء رمضاناً عنوانه المعاناة وبالغ التقشف، بينما تحتفل الطبقة السياسية وكبار رجال الأعمال بشهرٍ مختلف تماماً، يتدفق فيه المال المنهوب ليملأ الموائد بأغلى الأطباق. مطاعم فاخرة تغص بأصحاب الامتيازات والمتنفذين، وتصطف السيارات الفارهة أمامها، لتحكي قصة ثراء لم يصنعه جهدٌ ولا تعب، بل صفقات مشبوهة وفساد مستشرٍ.
لا مكان للجوع أو الحرمان في قصورهم، بل ولائم فاخرة وسهرات تمتد حتى الفجر، في بلدٍ يعيش أكثر من ربع سكانه تحت خط الفقر، ويُحرم فيه الملايين من أبسط حقوقهم الحياتية.
والمفارقة ان من ينادون بالصبر هم الأكثر بذخاً، هؤلاء الذين يتحدّثون عن الصبر والتقشف والرضا بالقليل هم أنفسهم الذين لا تمسهم أيّة أزمة، ولا يعرفون عن المعاناة إلا من شكاوى المواطنين، التي لا تلقى سوى وعود زائفة، سرعان ما تذروها الرياح.
رمضان في جوهره هو شهر التراحم والتكافل، لكنه في العراق أصبح رمزاً للتفاوت الطبقي الحاد. ففي الوقت الذي يعجز فيه المواطن العادي عن شراء حاجاته الأساسية، نجد الأثرياء يتباهون بولائمهم دون خجلٍ أو تأنيب ضمير. ولم يعد مشهد الإفطار في العراق مجرد طقسٍ ديني، بل أصبح صورة مجسدة لصراع الطبقات، حيث انكفاء الكادحين مبكراً في بيوتهم بعد يومٍ طويلٍ من المعاناة، بينما تظل قصور الأثرياء مضاءة حتى الفجر، تحتضن جلسات وسهرات باذخة، لم تعرفها حتى أغنى العواصم العالمية.
الفقر الذي ينهش حياة العراقيين ليس قَدَراً محتوماً، بل هو نتيجة سياسات منحازة واقتصادٍ يخدم القلة على حساب الأغلبية. والحلول ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لمحاسبة المحتكرين، وكبح جماح الفساد، الذي يحوّل كل أزمة إلى فرصة جديدة للنهب.
وحتى ذلك الحين يبقى رمضان شاهداً على الظلم الاجتماعي في العراق، حيث تختنق موائد الفقراء بالتقشف، بينما تتخم موائد الفاسدين بالترف، في بلدٍ يئن تحت وطأة الفساد، ويُفرض على شعبه الصيام عن العدالة قبل الطعام.