شهدت محافظتا البصرة والمثنى موجة احتجاجات جديدة، وسط غضب شعبي متنامٍ من سوء الخدمات وتفاقم الأزمات المعيشية، خصوصاً في قضاءي الدير والشرش شمالي البصرة، حيث خرج الأهالي بتظاهرات وبيانات حادة اللهجة، مطالبين الحكومتين المحلية والمركزية بتدخل عاجل وحلول جذرية، فيما نظم خريجو الاحتياط في المثنى وقفة احتجاجية أمام مبنى المحافظة، للمطالبة بضمان حصتهم من التعيينات.
مشروع بنية تحتية يتحول إلى عبء
في قضاء القرنة شمالي البصرة، أصدر أهالي منطقة الشرش بياناً غاضباً عبّروا فيه عن استيائهم من تلكؤ مشروع البنى التحتية الذي طال انتظاره لسنوات، دون أن يكتمل بسبب “أخطاء الشركة المصممة وتلكؤ الشركة المنفذة”، على حد وصفهم.
وحمل الأهالي الجهات المعنية والشركات المنفذة والمصممة مسؤولية الهدر والإهمال، معتبرين أن قرار المحافظة بسحب المشروع من الشركة المتلكئة ووضعها على القائمة السوداء خطوة إيجابية، لكنها متأخرة وغير كافية. وأكد البيان ان “ما ضاع من وقت وما أُهدر من أموال عامة لا يمكن أن يمر دون محاسبة واضحة وصريحة لكل من تهاون أو تستر أو تسبب في هذه الكارثة الخدمية”.
وطالب الأهالي بثلاث خطوات أساسية وهي محاسبة شاملة للمسؤولين المقصرين داخل الحكومة المحلية والدوائر الفنية ذات العلاقة، وإحالة بقية المشروع إلى شركة رصينة معروفة بالكفاءة والنزاهة، مع ضمان إشراف ورقابة صارمة، مؤكدين على إعلان تفاصيل المراحل المقبلة بشفافية لمنع تكرار الغموض والمماطلة.
وفي ختام البيان، وجّه الأهالي إنذاراً واضحاً للسلطات المحلية: “لن نقبل أن تتحول مناطقنا إلى حقل تجارب للشركات الفاشلة. إن لم تُتخذ خطوات عملية وسريعة، فسنتجه إلى خطوات تصعيدية سلمية مشروعة، ولن نصمت بعد اليوم على الإهمال والتهميش”.
الدير وأزمة عطش متفاقمة
أما في قضاء الدير شمال البصرة، فقد خرج العشرات من الأهالي إلى جانب شيوخ العشائر ووجهاء المنطقة في احتجاجات غاضبة، ضد تردي نوعية المياه الواصلة إلى القضاء.
المحتجون حذروا من خطوات تصعيدية خطيرة، بينها إغلاق الحقول النفطية وقطع طريق بغداد – البصرة، إذا لم تستجب الحكومة المحلية لمطالبهم بحل أزمة مياه الشرب.
وقال الناشط إحسان البصيري: “وقفنا اليوم للمطالبة بأبسط حقوق الإنسان وهي المياه الصالحة للشرب. لدينا أكثر من 400 حالة تسمم هذه الفترة بسبب سوء نوعية المياه”.
فيما خاطب المتظاهر إبراهيم محمد المحافظ أسعد العيداني بالقول: “كنت تتحجج بعدم وجود الأموال، لكن الآن الأموال متوفرة، فلماذا لم تعالج ملف المياه الذي وعدت بحله منذ خمس سنوات؟”
المحتج علي حسن ذهب أبعد من ذلك قائلاً: “هذا الماء لا يصلح حتى للحيوان، ولهذا العيداني لا يعاملنا كبشر. لم ينشئ محطة تحلية توفر لنا المياه، وأطفالنا يعانون من الأمراض الجلدية بسبب هذه المياه الملوثة.”
أما رزاق صبيح، فأكد أن الأهالي وصلوا إلى مرحلة “اللاعودة”: “إذا لم يُوجد حل لأزمة المياه سنغلق الطرق المؤدية للحقول النفطية وأولها حقل مجنون، وسنغلق طريق بصرة – بغداد. كفى إهمال من الحكومة”.
وطرح قائد الحراك الاحتجاجي في الدير، مثنى الربيعي، جملة حلول عملية، بينها شمول قضاء الدير بالتغذية من قناة السويب الممتدة من القرنة إلى شط العرب، ومد أنبوب من مشروع ماء البصرة الكبير إلى الدير، مطالبا بشمول القضاء بنظام المراشنة لضمان العدالة في توزيع المياه.
خريجو الاحتياط يطالبون بالتعيين
وفي محافظة المثنى، نظم عدد من خريجي الاحتياط وقفة احتجاجية أمام مبنى المحافظة، طالبوا خلالها بضمان حصتهم من التعيينات، وعدم تحويلها إلى فئات أخرى.
وقال أحد المشاركين ان “مطالبنا موجهة للحكومة المحلية، ونؤكد على ضرورة متابعة ملف التعاقد معنا، وعدم إصدار استثناءات لفئة محددة دون غيرها”.
شهدت عدة مدن عراقية خلال الأيام الماضية سلسلة وقفات احتجاجية حملت مطالب مختلفة، تراوحت بين الدعوة لكشف حقيقة وفاة الطبيبة بان زياد، الى جانب المطالبة بتعيين أوائل الخريجين في إقليم كردستان.
احتجاجات في بغداد والبصرة
وفي العاصمة بغداد، نظم العشرات من المواطنين ومنظمات المجتمع المدني، امس السبت، وقفة احتجاجية في ساحة التحرير للمطالبة بكشف ملابسات وفاة الطبيبة بان زياد، داعين الجهات المختصة إلى التحقيق ومحاسبة المتورطين في القضية.
وفي مدينة البصرة، أقيمت مساء الأربعاء وقفة مماثلة قرب تمثال السياب على كورنيش شط العرب، شارك فيها أطباء وناشطون ومواطنون من مختلف الشرائح. وأكد المشاركون أن هدفهم هو دعوة السلطات لتوضيح الحقائق للرأي العام، بما يضمن الشفافية ويضع حداً للتكهنات.
وقال عدد من الأطباء المشاركين إنهم يشعرون بالقلق تجاه ما حدث للطبيبة، وطالبوا بتحقيق مهني ومكثف يضمن حماية حقوق الضحية ويبعث برسالة طمأنينة للمجتمع الطبي. فيما شددت ناشطة من صناع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي أن الجميع معرضون لمصير مشابه، مؤكدة وقوفهم صفاً واحداً في أي قضية مشابهة لحماية حقوق الأفراد.
من جهته، اعتبر مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، مهدي التميمي، أن الخطوة التي اتخذتها وزارة الداخلية بفتح التحقيق "موفقة وفي الاتجاه الصحيح"، داعياً إلى استقدام خبراء في الطب العدلي لضمان كشف الحقائق ورفع الغموض عن القضية.
وأعلنت محكمة تحقيق البصرة الثالثة، الجمعة، مباشرتها الإجراءات القانونية بشأن وفاة الطبيبة بان زياد طارق، مؤكدة استمرار التحقيقات تحت إشراف مباشر من قاضي التحقيق المختص.
وفي اليوم ذاته، جه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بمتابعة التحقيق في القضية التي أثارت صدمة وحزنًا واسعًا في الأوساط الطبية والمجتمعية.
وفارقت الدكتورة بان، والتي كانت تقدم محتوىً طبيًّا في مواقع التواصل الاجتماعي، الحياة في منزل أسرتها في البصرة يوم الاثنين قبل الماضي (4 آب)، لكن التحقيقات لم تؤكد حتى الآن صحة رواية العائلة عن انتحار ابنتهم.
وقفة في السليمانية
وفي محافظة السليمانية، نظم عدد من أوائل خريجي الكليات والمعاهد، وقفة احتجاجية للمطالبة بتعيينهم أسوة بنظرائهم في باقي المحافظات العراقية.
وقال ممثل المحتجين، زانا محمد، خلال مؤتمر صحفي، إن الخريجين نظموا أكثر من 47 تظاهرة خلال السنوات السبع الماضية، ورغم صدور أوامر من وزارة التعليم العالي بتعيينهم كمُعيدين، ووصول الموضوع إلى توقيع رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان، إلا أن التنفيذ لم يتم حتى الآن.
وأوضح أن الحاجة إلى اختصاصاتهم باتت ملحة بعد إحالة أعداد كبيرة من الموظفين إلى التقاعد في وزارات الإقليم، خصوصاً في التعليم العالي، مشيراً إلى أن التخصيصات المطلوبة لرواتبهم لا تتجاوز عشرة مليارات دينار، وهي مبالغ يمكن للحكومة تأمينها من الإيرادات الداخلية.
وطالب المحتجون بعقد لقاء مباشر مع رئيس حكومة الإقليم لإيجاد حل نهائي لمشكلتهم، بعد محاولات عديدة "طرقت جميع الأبواب دون الوصول إلى نتيجة"، على حد قولهم.
شهدت ناحية الشمال التابعة لقضاء سنجار، تظاهرة حاشدة شارك فيها العشرات من أهالي القضاء ووجهاء العشائر ورجال الدين والناشطين المدنيين، للتعبير عن غضبهم من استمرار تهميش المنطقة والتواطؤ الحكومي، على حد وصفهم، مطالبين بتنفيذ وعود الحكومة الاتحادية والمحلية التي بقيت، بحسب قولهم، حبرًا على ورق.
ورفع المتظاهرون لافتات تُندد بالإهمال، وأصدروا بيانًا أمهلوا فيه الحكومتين الاتحادية والمحلية مدة عشرة أيام للاستجابة الفورية لمطالبهم، وفي حال عدم الاستجابة، هددوا باللجوء إلى إضراب عام ومفتوح حتى تحقيق العدالة لأهالي المنطقة.
وتضمنت المطالب تعيين قائمقام ومدراء نواحي، وإكمال المشاريع الصحية المتوقفة، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار وتعويض المتضررين، ومنح منحة العودة للنازحين، وإعادة نشر أفواج طوارئ الشرطة، والكشف عن مصير أكثر من 2500 مختطف ومختطفة منذ 2014، وحل ملف النزوح، وإعادة بناء المؤسسات الحكومية المدمرة.
وأكد المشاركون، أن الوضع في سنجار أصبح "غير مقبول"، مشيرين إلى أن صبر الأهالي بدأ ينفد بعد سنوات من الوعود غير المنفذة، في ظل استمرار معاناة السكان على صعيد الأمن والخدمات والإعمار، وبطء تنفيذ المشاريع الحكومية.
وفي أقصى جنوب العراق، نظم العشرات من كوادر بلدية سفوان في محافظة البصرة، أمس، وقفة احتجاجية أمام مبنى البلدية، مطالبين بزيادة رواتبهم بمقدار 250 ألف دينار أسوة بكوادر وزارة التربية.
وقال مسؤول الشعبة القانونية في البلدية، عمار مالك، إنهم يناشدون الحكومة ونواب البصرة منحهم المخصصات المقطوعة لتحسين مستوى معيشتهم، فيما أوضح منذر دارم من شعبة الأملاك أن رواتبهم الحالية، البالغة 170 ألف دينار فقط، لا تكفي لتغطية أبسط الاحتياجات في ظل غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار.
شهدت محافظتا واسط وميسان تظاهرات شعبية غاضبة، على خلفية قضايا تمسّ حياة المواطنين وحقوقهم بشكل مباشر، ففي الكوت، أغلق العشرات من منتسبي الصحوات والخريجين بوابة مبنى المحافظة، رفضاً لما وصفوه بـ"تعيينات وهمية"، بينما شهدت ناحية المشرح شرق ميسان تظاهرة أخرى لمواطنين وسائقين غاضبين، مطالبين بإنهاء معاناة الطريق الرابط بين العمارة ومنفذ الشيب، والذي بات يُشكل تهديدًا يوميًا لأرواح المارة، في ظل الصمت الرسمي قبل أسابيع قليلة من زيارة الأربعين.
واسط
وأغلق العشرات من منتسبي الصحوات والخريجين، بوابة مبنى محافظة واسط وسط مدينة الكوت، احتجاجاً على ما وصفوه بـ"القرارات الوهمية" الصادرة عن المحافظ السابق، والتي تضمنت تعيينهم بأوامر إدارية لم يُعترف بها لاحقًا. واندلعت التظاهرة الغاضبة عند مدخل المحافظة، وسط انتشار أمني مكثف من أفواج الطوارئ والأجهزة الأمنية، حيث منع المتظاهرون الموظفين من الدخول إلى مبنى المحافظة، مما تسبب بتعطيل العمل الرسمي ووقوع احتكاكات مع عناصر حماية المبنى.
وقال مراسل "طريق الشعب"، شاكر القريشي، ان التوترات تصاعدت بعد اعتداء بعض الحراس على المتظاهرين السلميين، فيما ردّت القوات الأمنية بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، ما أدى إلى اشتباكات بالأيدي وحرق الإطارات في محيط البوابة.
وأفاد أحد المتظاهرين لـ"طريق الشعب"، رافضاً الكشف عن اسمه، بأن المحافظ السابق أصدر أمراً إدارياً يحمل الرقم (10808) بتاريخ 29/12/2023 يقضي بتعيين نحو 2000 من منتسبي الصحوات، في خطوة اعتُبرت تمهيداً لحملته الانتخابية لعام 2024.
وأضاف "لقد تسلمنا الكي كارد والموافقات، لكن بعد فترة طويلة تبيّن أن التعيينات كانت وهمية وغير قانونية، واليوم نطالب بمحاسبة جميع المتورطين في هذا الفساد".
وحذر المتظاهرون من تصعيد احتجاجاتهم في حال عدم الاستجابة لمطالبهم، مشيرين إلى أنهم قد يقدمون على إغلاق المحافظة ومجلسها بشكل كامل خلال الأيام المقبلة.
ميسان
من جانبهم، تظاهر أهالي ناحية المشرح ومستخدمو طريق (عمارة – مشرح – منفذ الشيب) شرق محافظة ميسان، لمطالبة الجهات المعنية بالتدخل العاجل لمعالجة مخاطر الطريق الذي تحوّل إلى مسار واحد بسبب أعمال الصيانة، ما أدى إلى تزايد الحوادث المرورية، خصوصًا خلال ساعات الليل، وسط مخاوف من تفاقم الأزمة مع قرب انطلاق زيارة الأربعين.
ويُعد الطريق محورًا حيويًا على المستويين الزراعي والخدمي، حيث يربط مدينة العمارة بمنفذ الشيب الحدودي، ويستخدمه الزائرون الإيرانيون الوافدون إلى العراق خلال المناسبات الدينية، إضافة إلى مركبات نقل البضائع والمزارعين وسكان المنطقة.
وأشار سائقون إلى أن المرور في الاتجاهين عبر ممر واحد ضاعف من خطورة التجاوز، ما يهدد أرواح المواطنين يوميًا.
تتفاقم أزمة السكن في العراق وسط محاولات حكومية متواصلة لحلها عبر بوابة الاستثمار، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات متشابكة، تتوزع بين تعقيدات إدارية وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع المشاريع، ما يثير تساؤلات جادة حول جدوى الحلول المطروحة ومن تُخاطب فعلاً.
نائب يؤشر مشكلات البيئة الاستثمارية
وقال نائب رئيس لجنة الاستثمار النيابية، حسين السعبري، أن التحديات الأساسية التي تعيق تنفيذ المشاريع الاستثمارية السكنية في العراق، لا تتعلق بالمستثمرين، بل تنبع من الإجراءات الحكومية المعقدة وتعامل الدوائر الرسمية.
وأضاف السعبري في حديث لـ"طريق الشعب"، إن "العديد من المعوقات تحصل لدى الجهات ذات العلاقة مثل وزارة المالية، دائرة عقارات الدولة، البلديات، ودائرة الماء والمجاري"، مبينا أن "قانون الاستثمار يتضمن آليات واضحة للمحاسبة والرقابة، منها سحب الإجازة أو فرض غرامات تأخيرية على المشاريع المتلكئة"، لكنه لا يحمل المستثمر وحده المسؤولية، فالعقبة الحقيقية تكمن في عدم تعاون الجهات الخدمية، وغياب التنسيق بين المؤسسات".
وفي ما يتعلق بثقة المواطنين بالمجمعات السكنية، أوضح السعبري أن "الإقبال على شراء الوحدات السكنية في المجمعات ازداد بشكل ملحوظ خلال السنوات الثلاث الماضية، مما يشير إلى تحسن نسبي في الثقة العامة، إلا أن ذلك لا ينفي استمرار المشاكل والمعوقات التي تثقل كاهل المستثمرين، خصوصاً ما يتعلق بتأخير إيصال الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والمجاري، وهو ما يضع المستثمر في دائرة مغلقة من الانتظار والابتزاز".
وشدد على أن حل هذه الإشكالات يتطلب إرادة حقيقية من مؤسسات الدولة لتوفير بيئة استثمارية آمنة وعادلة، تساهم في تقليص أزمة السكن وتعزيز الثقة في القطاع الخاص.
أزمة ثقة بين المواطن والمستثمر
وعلى الرغم من التصريحات الحكومية والبرلمانية التي تتحدث عن تحسن نسبي في واقع الاستثمار السكني، إلا أن أصواتا من داخل الوسط الاقتصادي ترسم صورة مختلفة، بل وتدق ناقوس الخطر حول ما تسميه "الانحراف الجوهري في فلسفة الاستثمار السكني في العراق".
الخبير الاقتصادي علي نجم العبدالله يرى أن البلاد تعاني من أزمة ثقة متفاقمة بين المواطن والمستثمر، وهي ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات ناتجة عن مشاريع لم تتجز، ووعود لم تنفذ، وغياب إطار قانوني صارم يضمن حقوق المواطنين في السكن الآمن والمناسب.
ويؤكد العبدالله في حديثه لـ "طريق الشعب"، أن "البيئة الاستثمارية اليوم تدار بعقلية تجارية بحتة، لا تأخذ في الاعتبار احتياجات المواطنين الحقيقية"، مشيرا إلى أن المواطن العراقي "أصبح يشعر بأن المجمعات السكنية تبنى لخدمة قوى المال والنفوذ، لا لتلبية حاجة الأسر الباحثة عن بيت يؤويها".
ويقول علي، أن "المجمعات السكنية التي تُشيّد اليوم تُقدم على أنها حلول لأزمة السكن، لكنها في الواقع تُعمق المشكلة بدل أن تحلها، فالمشكلة لا تكمن فقط في الشكل المعماري أو التوسع العمراني، بل في الفئة المستهدفة من هذه المشاريع، والتي غالبا ما تكون من ذوي الدخل المرتفع، بينما يتم تهميش الفئات الأكثر احتياجا، وعلى رأسهم الشباب وذوو الدخل المحدود".
ويضيف أن هذه المشاريع، التي يُفترض أن تُسهم في تعزيز الاستقرار الأسري والمجتمعي، تتحول تدريجيًا إلى "عنوان جديد للإقصاء الاجتماعي، وغياب جانب العدالة في التخطيط العمراني"، فالعدالة السكنية لا تعني فقط توفير وحدات سكنية، بل ضمان وصول الفئات الأقل حظًا إليها، ضمن تخطيط حضري يراعي العدالة الاجتماعية ويحد من مظاهر التمايز الطبقي.
المستثمر.. المستفيد الوحيد
فيما حذر الناشط السياسي علي القيسي من استمرار النهج القائم في إدارة ملف الاستثمار السكني في العراق، واصفا الواقع الحالي بأنه يعكس خللا بنيويا عميقا، يتسبب في تعميق أزمة السكن بدل من حلها، ويُقصي الفئات الأَولى بالاسكان.
وأوضح القيسي لـ"طريق الشعب" أن أزمة الثقة بين المواطنين والمستثمرين تعود بالأساس إلى التناقض الصارخ بين ما يُعلن عنه في العقود أو التصريحات الرسمية، وبين ما يُنفذ على أرض الواقع، مشيرا إلى أن "أغلب المجمعات السكنية أُقيمت على أراضٍ زراعية أو خضراء، رغم الوعود بتخصيص مساحات للحدائق والمتنزهات، لكن الحقيقة أن هذه المساحات تُستغل لاحقًا لأغراض البناء، وسط غياب شبه تام للرقابة من الجهات المعنية".
واعتبر القيسي أن هذا النمط من التوسع العمراني لا يقتصر ضرره على البيئة أو التخطيط الحضري، بل يمتد إلى البعد الاجتماعي، حيث تُسوق الوحدات السكنية بأسعار باهظة لا تُناسب الغالبية العظمى من العراقيين.
وقال انه "في بعض مناطق بغداد، لا يقل سعر المتر الواحد عن ألف دولار، رغم أن المستثمر يحصل على الأرض مجانا، ويتمتع بإعفاءات جمركية وضريبية كبيرة على المواد الأولية".
وأضاف ان "المفارقة المؤلمة أن المشاريع السكنية التي يُفترض أن تحل أزمة السكن للفقراء والطبقة الوسطى، باتت تصمم وتسعر بما يخدم مصالح السياسيين، والتجار، والمتنفذين، لتتحول إلى أدوات ربح سريع لا علاقة لها بعدالة التوزيع أو تخفيف العبء عن كاهل الناس".
ورأى القيسي أن ما يحدث يعكس فلسفة مشوّهة في التخطيط العمراني، تضع الأرباح في مقدمة الاعتبارات، وتغفل عن كون السكن حقًا أساسيا لا يجب التفريط فيه، مؤكدا أن "الموظفين وأصحاب الدخول المحدودة، الذين يمثلون العمود الفقري للمجتمع، أصبحوا خارج حسابات هذه المشاريع، وهم الأَوْلى بالحصول على سكن كريم في وطنهم".
وفي ختام حديثه، دعا القيسي الحكومة والمؤسسات المختصة إلى إعادة النظر جذريا في سياسات توزيع الأراضي والتخطيط الحضري، مؤكدا أن الحل يبدأ من تغيير النظرة إلى السكن، من سلعة مربحة إلى حق إنساني واجتماعي.
وزاد بالقول انه "لا يمكن مواجهة أزمة السكن المتفاقمة دون تبني رؤية شاملة توازن بين احتياجات السوق ومبادئ العدالة الاجتماعية. المطلوب ليس فقط إصلاح السياسات، بل تغيير فلسفة الاستثمار من جذورها، لتكون في خدمة الإنسان لا على حسابه".