لم يكن للتناغم الجميل بين قيمنا، نحن العراقيين ورثة الحضارات العريقة، وبين أفكار الحرية والعدالة التي راحت تبدّد ظلمة العالم في بدايات القرن الماضي، إلا أن يُثمر عن ولادة أولى الخلايا الشيوعية في بغداد والبصرة والناصرية، وعن تصدّي شبيبة ثورية لمهمة تحطيم أسوار التخلف ونشر الفكر الماركسي، في مناشير سرية أو خطابٍ مستتر زيّنوا به بعض الصحف العلنية.
وحين جاء اليوم الذي أشرقت فيه شمس الحزب، صار لزامًا أن تكون له أدواته المستقلة، التي تُعبّر عن سياسته ومواقفه وتخلق جسور التواصل بينه وبين شغيلة العراق وكادحيه، فصدرت في 31 تموز من عام 1935 "كفاح الشعب"، أول صحيفة مركزية للحزب الشيوعي العراقي، تلتها صحيفة "الشرارة" عام 1940، ثم "القاعدة" في 1943، وبعدها "اتحاد الشعب" في 1956، وأخيرًا "طريق الشعب" في 1961.
واليوم، ونحن نحتفل بالعيد التسعين للصحافة الشيوعية العراقية، نستذكر بفخر واعتزاز الموقع الفريد الذي احتلّته في التاريخ السياسي والثقافي لبلادنا، بوصفها لسان حال شعبنا، ومرآةً تعكس نضالات الشغيلة والكادحين وتطلّعاتهم نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاستغلال والجور، وكلمةً ثورية صادقة وصلبة لا تلين في الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد والتمييز، وسلاحًا فكريًا وميدانيًا بيد الجماهير في معاركها الوطنية والطبقية.
لم تكن هذه الصحافة الشيوعية الباسلة، والتي غالبًا ما طُبعت في غرفٍ سرية ووزِّعت بأيدي صبايا وفتية لا يهابون الموت، مجرد صفحاتٍ مطبوعة، بل كانت امتدادًا لموقفٍ سياسي منحاز للفقراء، مقاومٍ للهيمنة ولمآسي الجوع والبطالة والتمييز، ملتزم بقضية التحرر الوطني والاجتماعي، ومَعلَمًا فريدًا للصمود في ظروفٍ شديدة القسوة، من قمع واضطهاد واغتيال ورقابة أمنية وتضييق، ورافعةَ وعيٍ استنهضت المضطهدين في الأزقة والمصانع والأرياف والمعاهد، ونظّمتهم وعبّأتهم في مقاومة مستعبديهم، وذاكرةَ نضالٍ وثّقت مآثر الكفاح الوطني والطبقي لشعبنا على مدار ما يقارب القرن من الزمان، وفضاءً حرًا وخلاقًا حمى ثقافتنا الوطنية، وحفّز منتجيها على الإبداع.
لقد تميّزت الصحافة الشيوعية العراقية بانحيازها الكامل لقضايا الوطن، والدفاع عن طهارة أرضه من أي احتلال أو نفوذ أجنبي، وعن حرية الشعب وحقّه في التمتّع بثروات بلاده، وبالخدمات الأساسية وكل مستلزمات العيش الكريم. كما تبنّت المشروع الوطني الديمقراطي الذي يُنقذ بلادنا من التمزّق والاستقطابات الطائفية والإثنية، ومن الإرهاب وطغيان الفاسدين، ومن التخلف وأفكار التطرف والكراهية والشوفينية والعنصرية والتعصب.
كما حرصت هذه الصحافة الباسلة على المصداقية والمهنية والجرأة، وتقصّي الحقيقة وإيصالها إلى الرأي العام، بلغةٍ وخطابٍ وآلياتٍ بسيطة وواضحة ومفهومة ومتاحة للجميع. ولم تتوانَ اليوم عن فضح المآسي التي جلبها نهج المحاصصة للبلاد، والنضال لدحر منظومته، وإحلال دولةٍ مدنية ديمقراطية محلها؛ دولة تحترم الحريات، وتُطلق تنمية مستدامة، وتتّبع سياساتٍ اقتصادية واجتماعية سليمة، يُعاد بها توزيع الثروة بعدالة، وتُؤمَّن فيها حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، وتقضي على الأمية، وتضمن التعليم المجاني، والرعاية الصحية، والسكن اللائق للناس.
وكان بديهيًا تمامًا أن يُساهم خيرة أبناء الشعب من صحفيين وإعلاميين ومبدعين — شيوعيين وديمقراطيين ووطنيين — في العمل بهذه الصحافة ورفدها بنتاجاتهم المتميزة، حتى صارت بحق مدرسةً صحفية مبدعة يُشار إليها بالبَنان. وكما كان منتظرًا، دافع العشرات من أبناء هذه الصحافة عنها بأرواحهم، فاعتلوا قمة المجد، وبقيت شعلة الكلمة الشيوعية الصادقة، تقبس من دمائهم الزكية ما يُبقيها تُنير طريق الظفَر.
وإذ تواصل صحافتنا نهجها هذا بثبات وتسعى لمواكبة التطور التقني الذي يشهده الإعلام وخاصة في مجال الرقمنة، تعاهد العراقيين على أن تظل صفحاتها صوتاً لمطالبهم وهمومهم ومشغلاً للفكر والنتاج الثقافي والإبداعي، لتكون دوماً كما أراد لها الحزب، طريق الشعب نحو السعادة.
لتبقَ الصحافة الشيوعية العراقية مزهرةً ونجم هُداة في الطريق المُضني والعذب، نحو عراقٍ ديمقراطي اتحادي حرّ ومزدهر.
الخلود لشهدائها الأبرار، وكل شهداء الكلمة الحرة، وتحية اعتزاز وتقدير لكل من وضع لبنةً في صَرحها الشامخ.
تحل اليوم الذكرى الخامسة والستون لانعقاد المؤتمر الاول لاتحاد الجمعيات الفلاحية في العراق يوم ١٥ نيسان ١٩٥٩، والذي التأم في أجواء العهد الجديد بعد ثورة 14 تموز المجيدة، واعتُبر يوما وعيدا للفلاح العراقي.
ويعكس الاحتفال بهذا اليوم الاهتمام بالفلاحين والعمال الزراعيين والمزارعين العراقيين، والإقرار بدورهم في العمل المثمر والاسهام في توفير سلة الغذاء للمواطن العراقي، ودعم الناتج الوطني المحلي.
ونحن إذ نقدم خالص التحايا في مناسبة هذا اليوم الاغر، نستذكر الشهداء والتضحيات الكبيرة التي قدمها الفلاحون والعمال الزراعيون، من اجل نيل حقوقهم في الأرض، وتطبيق قوانين الإصلاح الزراعي والقوانين الأخرى التي تنصف الفلاحين، خاصة صغار الفلاحين وكادحي الريف. وهي مناسبة أيضا لاستذكار دور الشيوعيين واصدقائهم في الدفاع عن الفلاحين وحقوقهم ومكتسباتهم.
في هذا اليوم وفي ظل الازمة البنوية الشاملة التي تعيشها بلادنا، نؤشر القسط الهام من تداعياتها التي تنعكس على واقع وحياة الفلاحين والمزارعين والعمال الزراعيين، وعموم سكنة الريف والقطاع الزراعي.
ومثل القطاعات الإنتاجية الأخرى، لم يحظ القطاع الزراعي بالاهتمام المطلوب، وبما يتناسب مع أهميته في توفير عناصر السلة الغذائية للمواطنين، والاسهام في تحقيق الامن الغذائي، وفي الخفض التدريجي للمستورد من المواد الغذائية، وتوفير عملات صعبة للوطن، وإيجاد فرص عمل في ريفنا الذي لم تتوفر فيه مستلزمات العيش الكريم، ما اضطر سكنته والفلاحين والمزارعين باستمرار الى الهجرة نحو مناطق أخرى، بحثا عن فرص العمل والخدمات. وتدهور الحال مؤخرا مع تفاقم ازمة المياه وضآلة الدعم الحكومي والتوقف عن توفير مستلزمات عدة للزراعة، واغراق السوق بالمنتج الأجنبي المستورد وعدم توفير الحماية للمنتج الوطني.
ولا أدلّ على ضعف هذا الاهتمام، من تواضع المبالغ التي تخصص للقطاع الزراعي، كذلك ما يخصص لقطاع المياه في الموازنات السنوية.
ان المشكلة الأرأس التي تواجه بلدنا الآن، والقطاع الزراعي خصوصا (الذي يستهلك حوالي ٨٠ في المائة من الإيرادات المائية) تتمثل في شح المياه وقلة الإيرادات الواردة الى نهري دجلة والفرات، والتي هي دون الحاجة الفعلية ولا تمثل حصة عادلة للعراق في النهرين. وهذا ناتج أساسا عن مواقف تركيا وايران وعدم مراعاتهما الحاجة الفعلية للعراق. في المقابل لا يوجد موقف حكومي واضح وصريح يطالب بإجراءات محددة لتغيير هذا الحال، وانتزاع حقوق العراق المشروعة، وربط اية علاقات اقتصادية وتنموية مع تركيا وايران، بحل مشكلة هذه الملف المصيري للعراق.
وقد قاد النقص الكبير في المياه الى تقليص المساحات الزراعية، وإلغاء او تحجيم زراعة بعض المحاصيل مثل الشلب والذرة، فيما يستمر التدهور في الأراضي الزراعية وفي خصوبتها وتصحر وتملح مساحات واسعة منها. كذلك الانخفاض في اعداد الثروة الحيوانية والسمكية على نحو غير مسبوق. وساهم ذلك في ارتفاع أسعار اللحوم في الأسواق.
واللافت هنا هو التوجه للاستيلاء على الأراضي الزراعية تحت عناوين مختلفة، وبالذات في البوادي الرعوية، والتجاوزات الفظة على القوانين السارية ومنها قانون الرعي رقم (٣) لسنة ٢٠٠٢، وسط تسهيلات حكومية مقدمة واحيانا تحت عنوان "الاستثمار"، كذلك الزحف على الأراضي الزراعية والتقليص المستمر للمساحات الخضراء، ما ينعكس سلبا على الإنتاج الزراعي وتنوعه وعلى الظروف البيئية. يصاحب ذلك نقص حاد في البنى التحتية في الريف، الذي يعاني أصلا من ضعف الخدمات العامة فيه.
ان أي توجه جاد لمعافاة هذا القطاع والنهوض به يتطلب أمورا عدة، لعل في مقدمتها المعالجة الضرورية لقلة التخصيصات المالية للقطاعين الزراعي والمائي في الموازنة العامة، وتأمين حصة عادلة للعراق في مياه نهري دجلة والفرات، واستخدام مختلف الطرق السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لتأمين حقوق العراق. وان تعمل الحكومة على إنفاذ قانون حماية المنتج الوطني، والتشديد على استخدام الرزنامة الزراعية، وضبط الحدود، وانفاذ قانون المراعي الساري المفعول رقم (٣) لسنة ٢٠٠٢. كذلك الاستخدام الواسع للتكنولوجيا الحديثة ورفع الإنتاجية ووضع نظام دعم للمدخلات والمخرجات، يبدأ من صغار الفلاحين (ذوي الحيازات الصغيرة) الذين يشكلون نسبة كبيرة من الناشطين زراعيا، وان يكون هذا الدعم تنازليا باتجاه الاستثمارات الواسعة. وان على الحكومة توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني، والمبيدات والعلاجات الطبية البيطرية، وباسعار مدعومة.
وبات ملحا تنشيط دور وعمل الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية لينهض بدوره المهني كاملا، وليسهم في تنمية القطاع الزراعي وتأمين سلة الغذاء للمواطن، وبما يجعله منظمة مهنية تدافع عن حقوق الفلاحين وتصون مكتسباتهم.
وان الحاجة ماسة الان لوقف التدخلات في شأن الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية من قبل المتنفذين والمؤسستين الحكومية والتشريعية، والسماح له باجراء انتخابات حرة ديمقراطية لاختيار قياداته، من الجمعيات التعاونية الفلاحية وصولا الى المجلس المركزي، والاتحاد وكوادره، بما يمتلكون من التجربة الثرة الكبيرة التي تؤهلهم لادارة شؤونه دون تدخلات وبعيدا عن صراعات المصالح الضيقة.
ان الفلاح العراقي ليستحق وهو يحيي يومه السنوي، كل الدعم والاسناد، فيما يبقى الريف بحاجة ماسة الى الاعمار و قواه المنتجة المادية والبشرية الى التطوير.
مرت أمس الذكرى الثانية والستون ليوم أسود، غرزت فيه حفنةٌ من الشقاة مخالبَها المتوحشة في قلب وطننا الحبيب، وتمكّنت بدعم اسيادها من طغاة الأرض وعتاة مستعبدي شعوبها، وبالتحالف مع بقايا الإقطاعيين وممثلي البرجوازية العقارية والبيروقراطية العسكرية المشبعة بالفكر الرجعي والشوفيني، من إسقاط الحكم الوطني وتدمير ما حققته ثورة 14 تموز المجيدة من منجزات ومكتسبات لشعبنا، وإطلاق العنان لميليشيات الحرس القومي الفاشي، لتعيث في البلاد فساداً وتعتقل وتعذب وتقتل آلاف العراقيين، ديمقراطيين وشيوعيين ووطنيين مستقلين، من العرب والكرد والتركمان والكلدواشورسريان ومن مختلف أطياف شعبنا المتآخية، وتنفذ جرائم بشعة، ستبقى على مر التاريخ وصمة عار تلاحق مرتكبيها، ممن لفظهم شعبنا والى الأبد.
وكما عَهَدهم العراقُ دوماً، تصدى الشيوعيون البواسل لعاصفة الشر والخراب تلك بصدورهم العارية، فإرتقى المئات منهم شهداء خالدين، وفي صدارتهم سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وحسن عوينة ونافع يونس وأبو العيس وعبد الرحيم شريف وجورج تلو والعديد غيرهم من قادة وكوادر وأعضاء حزبنا الشيوعي العراقي، الذين أبوا الا أن يرفعوا راية الحزب والشعب خفاقة دوماً، ويرصّعوا تاريخ الوطن بأسمى آيات الفخر.
واليوم، وبلادنا تعيش ظروفاً في غاية الصعوبة ويلف مصير تنميتها وتطورها ومستقبلها الكثير من الغموض، ويعم حول مآلات أوضاعها قلق كبير، فان هذه الذكرى المؤلمة تؤكد الحاجةَ للتأمل في نتائجها ولقراءة دروسها بتأنٍّ وحرص شديدين، سواءً في ما يتعلق بدور الديمقراطية السياسية في حماية كيان البلد واستقلاله، أو بأهمية إعلاء الهوية العراقية الجامعة، التي توّحد المواطنين بعيداً عن كل أشكال التمييز في الحقوق والواجبات وفي الحصول على الخدمات، أو في اطلاق إستراتيجيات تنموية تعتمد الشفافية والمساءلة والتكافل الاجتماعي، وتعالج الفقر والبطالة والأمية ونزعات العنف وتدني مستويات الوعي، وتحقق قدراً مناسباً من العدالة الاجتماعية، وتصون حقوق المرأة وكرامتها ، وتؤّمن كل الحريات، ولا تتهاون البتة مع مَن يخرقها، مهما كان وأيَّ موقع تبوأ.
ومن أبرز دروس المأساة ايضا، الحاجة للوضوح التام والشفافية في التعامل مع العامل الخارجي، بما يضمن منع تأثيراته السلبية وتدخلاته غير المشروعة بشؤون البلاد، وذلك عبر تحقيق بناء داخلي متماسك ورصين، وحفظ وصيانة القرار الوطني المستقل، وحصر السلاح بيد الدولة، وتطهير أجهزتها من الفساد والفاسدين وتعزيز هيمنتها وعلوية قوانينها ودستورها، وإعتماد التداول السلمي الديمقراطي الحقيقي بديلاً عن التوافقية المكوناتية المأزومة.
إن الحزب الشيوعي العراقي ومعه جماهير واسعة من شعبنا وقواه الوطنية المخلصة، قد شخّص عجز منظومة المحاصصة الحاكمة عن إصلاح ذاتها جراء تماديها في نهجها المدمر، حتى لم يعّد هناك من حلِ سوى الخلاص منها بالتغيير الشامل، السلمي الديمقراطي، الذي يضمن صيانة استقلال العراق وسيادته الوطنية، وإعادة هيكلة الاقتصاد وتخليصه من طابعه الريعي والسير به على طريق التنمية المستدامة، والإستثمار الأمثل للموارد وتطوير الإنتاجين الصناعي والزراعي، إضافة الى اعتماد مبادئ المواطنة والشفافية وتكافؤ الفرص منهجاً في الحكم، وإستكمال وتفعيل البناء الاتحادي وتوزيع الصلاحيات، وانهاء كافة اشكال التواجد العسكري الأجنبي على أراضينا.
ان مشروع التغيير الشامل الذي ندعو اليه هو تعبير عن إرادة وطنية، وهو يتطلب تعديلاً لموازين القوى، عبر نضال جاد ودؤوب تخوضه قوى شعبنا الخيّرة كافة ممن يهمها انقاذ الوطن، وعبر تفعيل الحراك الاحتجاجي والجماهيري والمطلبي، ومواصلة الضغط الشعبي لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تمثل إرادة العراقيين جميعاً، وتجرى وفق قانون انتخابي عادل ومنصف وبمفوضية مستقلة حقاً، مع تطبيق قانون الأحزاب السياسية، وبعيداً عن السلاح والمال السياسي وشراء الذمم والولاءات وتأجيج النزعات العرقية والطائفية، وعن محاولات مصادرة حرية الرأي والتعبير والتظاهر والاحتجاج السلمي.
وإذ يستذكر شعبنا وحزبنا مأساة 8 شباط، بجوانبها المؤلمة القاسية من جهة، وبمفاخر الشهداء وكل بنات وابناء شعبنا الذين تصدوا لذلك الطاعون الأسود من جهة اخرى، فانه يؤكد من جديد قناعته الراسخة بقدرة شعبنا على تحقيق التغيير الشامل، وإنهاء مسلسل الأزمات والمآسي، وبناء العراق الديمقراطي الاتحادي المستقل والمزدهر.
كان للتطورات التي حصلت على الصعيدين العالمي والشرق اوسطي تداعيات وارتدادات على الواقع العراقي، زادت من التحديات ومن احتمالات ومخاطر التدخلات الخارجية، التي تواجه شعبنا وبلدنا.
واذا كان الحذر إزاء التهديدات الخارجية والتصدي لها ضرورة وطنية، فان الالتفات الى الجوانب الهشة في الأوضاع الداخلية ومراجعتها بجدية، والإسراع في معالجتها جذريا، يمثلان حاجة ملحة لا تحتمل التاجيل والمماطلة.
فما هي تلك الجوانب الهشة في الوضع الداخلي العراقي؟
تقول تجربة سنوات ما بعد التغيير في ٢٠٠٣ بوضوح كاف، إن العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والأثنية انما أفضت إلى طريق مسدود، وان منظومة الحكم المنبثقة عنها منتجة للأزمات، وقد فشلت في بناء دولة متماسكة، وفاعلة في حماية الأموال العامة من الفاسدين والمفسدين، وفي تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية. إذ استشرى الفساد ليصبح جزءا من بنية الدولة، وتعمق الطابع الريعي للاقتصاد العراقي باعتماده على النفط، المحكوم بتقلبات الأسواق العالمية، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة والأمية، فيما تراكمت ثروات فلكية لدى فئة قليلة، وتحولت خدمات التعليم والصحة على يد القطاع الخاص وبصورة متزايدة، إلى سلع ترهق موازنة الاسرة، ولا يحصل عليها إلاّ المقتدرون ماليا، في وقت تردّت فيه الخدمات العامة الأساسية، كخدمات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والبلدية.
وقد غدا الامر واضحا جدا ويعكس عجز الحكومات المبنية على أسس الطائفية ومنهج التخادم المكوناتي المحاصصاتي، عن السير بخطوات جادة في طريق الإصلاح الحقيقي، وليس الشكلي والترقيعي، فضلا عن ولوج طريق التغيير الذي غدا في عراقنا مطلبا وطنيا ملحا.
فالمنظومة السياسية الحاكمة بمكوناتها المختلفة، والتي تحاصصت مؤسسات الدولة وتقاسمت النفوذ والمغانم فيها، وزرعت في مفاصلها عناصر الدولة العميقة أو الموازية، غير الخاضعة للرقابة والمساءلة، الى جانب شبكات الفساد، قد تمادت من دون رادع في الاستحواذ على المال العام واملاك الدولة وعقاراتها واراضيها، وفي تبديد موارد البلاد وثرواتها، وفي إفساد مؤسسات الدولة وتضخيم أعداد منتسبيها وفق معايير الولاء السياسي والزبائني والانتماء الهوياتي، بعيدا عن معايير المواطنة والعدالة والنزاهة والكفاءة. وهذا ما أدى الى تعمق الفرز الطبقي والاجتماعي وعناصر الاستقطاب في المجتمع، لصالح أقلية تحتكر السلطة والمال والاعلام والسلاح، وتتناقض مصالحها مع مصالح غالبية فئات وشرائح المجتمع، التي تشتد معاناتها، لا سيما منها الأقسام الواسعة من الشباب التي تفتقد ابسط مقومات العيش الكريم.
واضعفت المنظومة الحاكمة بنهجها وسياساتها، قدرات البلاد على حفظ السيادة والاستقلال الكاملين، وفرّطت بهيبة الدولة وبإمكانية انفاذ القانون على الجميع، فيما تفاقم انتشار السلاح المنفلت خارج اطار الدولة، وتشكلت فصائل ومليشيات وجماعات مسلحة، مرتبطة بقوى داخلية او كامتداد لاجندات خارجية، الامر الذي لعب دورا معرقلا لاعادة بناء الدولة على أسس سليمة.
ما التغيير المطلوب؟
لهذا كله وغيره، ولعدم قدرة المنظومة الحاكمة على اصلاح ذاتها، غدا التغيير الشامل مطلبا جماهيريا واسعا، وضرورة يفرضها تطور الأوضاع في المنطقة والعالم وفي بلدنا، وتفرضها الحاجة إلى ضمان تطوره اللاحق، والحفاظ عليه ككيان وطني موحد. فهو تغييرفي المنهج والأداء والسلوك ونمط التفكير وفي الشخوص وبارادة وطنية عراقية، وهو يقوم على مشروع يمثل قطيعة تامة مع النهج السائد في إدارة نظام الحكم، و يهدف إلى بناء دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات الضامنة للحريات والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مشروع يستهدف كذلك إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، والسير به على طريق التنمية المستدامة والتوظيف السليم لموارد البلاد وتنميتها، وبناء اقتصاد متنوع ومتعدد ويتسم بالديناميكية. كما انه مشروع مدني وطني ديمقراطي يصون الحريات وحقوق الانسان وينصف المراة ويمكنها، ويستجيب لحاجات الوطن والمواطن، ولعملية تعزيز البناء الاتحادي وتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والاقليم والحكومات المحلية، ويتصدى للتحديات التي تواجه البلد والمنطقة، ويفتح الآفاق نحو بناء وحدة وطنية حقيقية، ويحفظ سيادة البلد وقراره الوطني المستقل ويجنبه التدخلات الخارجية وانهاء كافة اشكال التواجد العسكري الأجنبي على أراضينا.
وان أي قول بعدم الحاجة الى التغيير ماهو إلا هروب من استحقاقات راهنة وتنصل عن المسؤولية، واصرار على الاستمرار في ذات النهج المدمر والمجرب.
ولا شك أن هذا التغيير المطلوب والذي نريده سلميا وديمقراطيا لن يتحقق إلا بتغيير موازين القوى السياسية لصالح أصحاب المشروع ومناصريه وداعميه، وكسر احتكار السلطة. وأن الوصول إليه يحتاج إلى حشد طيف واسع من القوى الداعمة، السياسية والمجتمعية، كما يحتاج الى خطوات جريئة وارادة كافية لوضع العراق على سكة التغيير الشامل.
وقد باتت الأوضاع الراهنة تطرح بإلحاح مهمة ترصين الجبهة الداخلية، وبناء فضاء وطني تلتقي فيه قوى شعبنا السياسية والاجتماعية، لتشكل مصداً امام مختلف المخاطر المحدقة ببلادنا. ولكن ينبغي ان يعي الجميع ان أي لقاء او اصطفاف وطني لابد ان يقوم على أساس مشروع سياسي تلتزم فيه اطرافه باحداث تغيير في نهج الحكم وإدارة الدولة، على وفق مباديء المواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية، واتخاذ إجراءات سريعة وحازمة لحصر السلاح بيد الدولة ومحاربة الفساد ونبذ التشظي والتقسيم المكوناتي والطائفي لبنية الدولة ومؤسساتها.
تحلُّ يومَ غدٍ الذكرى السنوية المجيدة لتأسيس جيشنا العراقي الباسل، في وقت يواجه فيه بلدُنا تحديات ومخاطرَ جمة، وتشتد حالة عدم الاستقرار في المنطقة وانعكاساتها المحتملة على أوضاع العراق الداخلية وتطوراتها.
في هذه المناسبة تجدر الإشادة بالتضحيات الجسام التي قدمها الجيش العراقي ومختلف التشكيلات العسكرية والأمنية الأخرى، مع شعبنا العراقي بأطيافه المتعددة، لتحرير أرضنا من رجس الإرهاب، ولتحقيق النصر العسكري، واجتراح المآثر خلال ذلك وتقديم الشهداء، الذين تتوجب رعاية أسرهم ودعمها، بعيدا عن البيروقراطية والروتين والتمييز.
لقد دفع شعبنا ووطننا ثمناً غالياً لتحقيق الانتصار الكبير على الإرهابيين ومنظماتهم، لذلك يتوجب الحفاظ عليه وتطويره باتجاه حسم فصول الإرهاب في بلدنا، ودحر أية مساعٍ للملمة صفوفه، ولتجفيف منابعه وتخليص بلدنا من شروره. وهذا يتطلب مقاربات متعددة متكاملة: سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية.
ولا يستقيم السعي إلى ذلك قطعا مع أي خطاب أو دعوات الى الكراهية والتفرقة، وإثارة الضغائن، وتأليب المواطنين ضد بعضهم، وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية والشوفينية، وتشجيع عسكرة المجتمع وانفلات السلاح والتمادي فيه.
وفي الظروف الراهنة التي تشتد فيها المخاطر وتهدد أمن البلاد وسلامة مواطنيه، إلى جانب التدخلات الخارجية على حساب القرار الوطني المستقلّ، والانتهاكات المتواصلة للسيادة العراقية، تقع على عاتق قواتنا المسلحة بجميع مكوناتها وصنوفها مسؤولية رئيسة، تتمثل في حماية المواطنين وسيادة العراق وصيانة حدوده وتأمين سمائه وارضه ومياهه. وهذا يطرح طائفة من المهمات الملحة، لعل في مقدمتها مهمة توحيد قرارها وتعزيز قدراتها، تسليحا وتجهيزا وتدريبا، وإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية وفق معايير الوطنية والكفاءة والمهنية والنزاهة واحترام حقوق الإنسان، كذلك تطهيرها من أي فاسد أو مرتش أو فاشل، وان تكون هذه المؤسسات، قولا وفعلا، بوتقة للوحدة الوطنية، لا يعلو فيها صوت على صوت الوطن والمواطنة وخدمة الشعب.
ويتطلب التصدي للمخاطر المحدقة أيضا توفر الإرادة السياسية، وتمتين الجبهة الداخلية، وإطلاق الحريات وعدم التضييق عليها تحت أي عنوان او مسمى، وتجنب اتخاذ قرارات أو الإقدام على تشريعات من شأنها التضييق على ما نص عليه الدستور، وتعزيز بناء النسيج المجتمعي على أسس المواطنة العراقية الجامعة، وتمتين اللحمة الوطنية وأجواء الثقة بين أطياف شعبنا المختلفة.
كذلك بات ضروريا أكثر من أي وقت مضى ان تقدم الحكومة على اتخاذ إجراءات عملية وخطوات فعلية لتطبيق قرارات حصر السلاح بيد الدولة، وتوحيد القرار الأمني ومركزته حسب ما جاء في الدستور، وعدم السماح بالمظاهر المسلحة خارج المؤسسات العسكرية والأمنية الدستورية، من قبل مليشيات أو جماعات مسلحة مهما كانت مسمياتها، وان يصار في نهاية المطاف الى الاعتماد كليا على هذه المؤسسات. كما يتوجب العمل على تطبيق قانون الأحزاب، الذي يحظر على الكيانات السياسية إنشاء مجاميع مسلحة. كذلك تفعيل المادة ٢٥ من القانون، التي تقول بالامتناع عن "التنظيم والاستقطاب الحزبي او التنظيمي في صفوف الجيش وقوى الامن الداخلي والأجهزة الأمنية الأخرى والقضاء والهيئات المستقلة"، وان تُسلم مهام حماية المدن الى أجهزة الأمن الداخلية بدلا من أية قوات أخرى، لاسيما في المناطق المحررة من تنظيم داعش الإرهابي. كذلك مباشرة عملية اندماج قوات متطوعي الحشد الشعبي في القوات المسلحة الوطنية، بما يضمن وحدة القيادة والقرار والسيطرة تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة، بعيدا عن اية اعتبارات سياسية وطائفية ضيقة، أو مؤثرات سياسية خارجية، وحفاظا على حقوق المقاتلين.
ويتوجب أيضا العمل الجاد لإعمار المدن التي عبث بها الإرهاب، وإعادة الحياة الطبيعية اليها، وإرجاع النازحين الى مدنهم وقراهم وبيوتهم، والكشف عن مصير كافة المختفين قسرا والمخطوفين والمغيبين، وإطلاق سبيل من بقي منهم على قيد الحياة فورا، وإنهاء ملف التعويضات للمتضررين من جرائم داعش الإرهابي.
وفي الذكرى المجيدة نجدد موقفنا الرافض لأي وجود عسكري أجنبي على أراضينا، وندين ونستنكر أية اعتداءات على بلدنا، او التدخل في شأنه الداخلي، ونعدّ هذا مطلبا وطنيا، وهدفا ينبغي العمل الحثيث وبثبات وجدية لتحقيقه، وتوفير جميع الشروط والمستلزمات التي تمكّن العراق من الحفاظ على أمنه وسيادته واستقراره وقراره الوطني المستقل.
ولعل من أهم هذه المتطلبات تحقيق إجماع سياسي وطني بشأن ذلك.
ولا بد من الإشارة إلى ان هذا كله وغيره، يتطلب بإلحاح ولوج عملية التغيير، التي باتت مطلباً شعبياً وسياسياً، وأمراً ضرورياً في ضوء المخاطر والتحديات الكبيرة التي تطرحها التطورات والتغيرات في المنطقة وتداعياتها المحتملة، ومفاقمتها هشاشة الأوضاع الداخلية في بلدنا. كما ان من واجب القوى السياسية الديمقراطية والوطنية إطلاق حوار وطني واسع، يستهدف إعادة النظر في العملية السياسية التي انتهت إلى طريق مسدود، جراء تعمق الأزمة البنيوية لمنظومة المحاصصة وبفعل تفشي الفساد، وبما يمهد الطريق لقيام الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، جنبا الى جنب تفعيل كل أدوات العمل السياسي والجماهيري والمطلبي والاحتجاجي السلمي.
تحية الى الجيش العراقي في ذكرى تأسيسه، وان الجميع مدعوون الى العمل على النهوض به وتقويته وتعزيزه، كماً ونوعاً، ليتمكن من إنجاز مهامه الدستورية على أفضل وأكمل وجه.