تواجه مدينة كركوك أزمة بيئية خانقة بسبب الانتشار الواسع لمكبات النفايات العشوائية في معظم أحيائها، في ظل غياب الحلول الجذرية من الجهات الخدمية المعنية، ما اضطر السكان لتحمل عبء النظافة بأنفسهم، في مشهد يعكس تراجع واضح في مستوى الخدمات الأساسية.
غرامات غير مفعلة
تقول المواطنة مريم عزيز، إن "قائممقامية كركوك فرضت غرامة مالية قدرها 250 ألف دينار على كل من يُلقي النفايات من المركبات، إلا أن القرار لم يُفعل على الأرض، ما أفقده قيمته الرادعة". وتضيف: "الأزمة أعمق بكثير من فرض غرامات، نحن نتحدث عن مدينة تُخنق يوميًا تحت وطأة الإهمال المستمر وسوء الإدارة".
وتصف عزيز لـ "طريق الشعب"، الوضع البيئي في بعض مناطق المدينة بأنه "كارثي"، مشيرة إلى أن مكبات النفايات تحولت إلى مشهد مألوف ومصدر دائم للأذى الصحي والبيئي، مشيرة الى انه "عندما تصل شاحنات النفايات لتفرغ حمولتها في الساحات المفتوحة، تنتشر روائح كريهة يصعب تحملها، وتزداد سوءا مع ارتفاع درجات الحرارة، حتى إن المرور قرب هذه المواقع بات مستحيلًا".
ورغم ذلك، تشير إلى أن "الوضع الحالي، رغم سوئه، يعد أفضل بقليل مقارنة بالسنوات السابقة، لكن ذلك لا يلغي الحاجة الملحة لحلول حقيقية ومستدامة".
وتؤكد عزيز، أن كثيرا من سكان كركوك اضطروا إلى اللجوء لوسائلهم الخاصة لمواجهة هذه الأزمة، فتقول ان "الأهالي يدفعون من مالهم الخاص لعمال النظافة من أجل جمع القمامة من الشوارع، خصوصًا في الأحياء التي تُهملها البلدية بشكل تام، لكن هذه الحلول الفردية لا يمكن أن تحل محل جهد مؤسساتي منظم".
وتابعت القول: انه "في المناطق الفقيرة، أصبح السكان هم من يتحملون مسؤولية تنظيف بيئتهم، بعد أن تخلّت الجهات المختصة عن دورها، ما يكرّس حالة من اللامبالاة والإجهاد المجتمعي".
وتختتم مريم حديثها بالقول ان "النفايات والروائح والاختناقات ليست مجرد مشكلات خدمية عابرة، بل مظاهر يومية لفشل الإدارة المحلية في حماية الصحة العامة والبيئة. لقد أصبحت مكبات النفايات منتشرة في كل مكان، وأحيانًا قرب أنابيب المياه والأنهار، ما يخلق بيئة خصبة للفطريات والملوثات التي تسبب حالات تسمم غذائي وإسهال، وقد تجلب أمراض خطيرة مثل التيفوئيد والكوليرا".
البلدية توضح عملها
وكانت بلدية كركوك قد كشفت في وقت سابق أن المدينة كانت تنتج ما بين 1100 إلى 1200 طن من النفايات يوميا خلال السنوات الماضية، ما شكل تحدي كبير أمام فرق التنظيف والدوائر الخدمية. لكن في المرحلة الحالية، تؤكد البلدية أن اعتماد آلية جديدة لتوزيع المهام بين شركتين أهليتين ساهم في تحسين مستوى النظافة ورفع كفاءة العمل الميداني.
وأوضح المهندس تركيش عز الدين من بلدية كركوك، أن البلدية قامت بتقسيم المدينة إلى جانب كبير وآخر صغير لتسهيل إدارة أعمال التنظيف والخدمات.
وأضاف تركيش لـ "طريق الشعب"، أن "الجانب الكبير يشمل مناطق مثل مستشفى آزادي، شورجة، القادسية، وحي العسكري الكبير. فيما يشمل الجانب الصغير طريق بغداد، حي القدس، حزيران، وغيرها من المناطق السكنية".
وبين تركيش أن أعمال التنظيف في كلا الجانبين أُسندت إلى شركتين أهليتين مختلفتين، بموجب عقود قام بتنظيمها مجلس محافظة كركوك، مشيرا إلى أن الشركتين باشرتا عملهما منذ بداية العام الجاري.
وأكد أنه "بفضل هذا التعاون، إلى جانب دعم المحافظة وكوادر بلدية كركوك، تمكنا من حل 75 في المائة من أزمة تراكم النفايات في المدينة".
ولفت إلى أن السنوات الماضية كانت صعبة من الناحية التشغيلية بسبب غياب الميزانية والدعم المالي الكافي، ما اضطر فرق البلدية إلى العمل بالإمكانات المحدودة المتوفرة فقط.
لكن الوضع تغير مؤخرا، بحسب تركيش، إذ "تم توفير تخصيصات مالية جديدة، إلى جانب تعزيز الكوادر البشرية، ما انعكس بشكل مباشر على مستوى النظافة والخدمات في المدينة".
نفايات عابرة لحدود المدن
فيما قال د. محمد خضر الجبوري، الاستشاري والخبير في البيئة والمناخ من محافظة كركوك، إن "مشكلة النفايات في العراق أصبحت من أكثر القضايا البيئية والصحية إلحاحا، بعد أن تجاوزت آثارها حدود المدن إلى الريف، وفاقمت من التلوث البصري والهوائي والمائي، وسط عجز واضح في البنى التحتية عن التعامل مع الكميات المتزايدة من النفايات، وتوسع الأنشطة السكانية والصناعية والزراعية بشكل غير منظم".
وأضاف الجبوري لـ "طريق الشعب"، أن "الحلول الحكومية ما تزال محدودة ولا ترقى إلى مستوى الأزمة، في وقت يتراجع فيه الوعي المجتمعي وتغيب مشاركة القطاع الخاص في تقديم البدائل المستدامة".
وتابع أن "الجهاز المركزي للإحصاء يقدّر حجم النفايات الصلبة في العراق بأكثر من 11 مليون طن سنويا، فيما تنتج العاصمة بغداد وحدها نحو 9 آلاف طن يوميا، يُجمع 85 في المائة منها بطرق بدائية، وغالبًا ما تُطمر في مكبات مفتوحة تفتقر لأبسط معايير السلامة البيئية".
وأوضح الجبوري، أن "دمج النفايات المعدنية والإلكترونية مع النفايات العامة يزيد من خطورتها، في ظل غياب محطات فرز وتدوير حديثة في أكثر من 70 في المائة من المحافظات"، مشيرا إلى أن "ضعف البنية التحتية للخدمات البلدية، وغياب استراتيجية وطنية موحدة لإدارة النفايات، والتمدد العشوائي للعمران، وسلوكيات المواطنين غير الواعية، جميعها تسببت في تعقيد المشكلة".
وتابع، ان "الأضرار لم تعد مقتصرة على البيئة فحسب، بل أصبحت تمس صحة الإنسان والاقتصاد الوطني، حيث يؤدي تحلل المواد العضوية إلى انبعاث غازات الدفيئة الخطيرة، وتسرب العصارة السامة إلى المياه الجوفية، فضلًا عن انتشار الحشرات والقوارض التي تنقل أمراضًا مثل التيفوئيد والليشمانيا".
ودعا الجبوري إلى "إطلاق حملة وطنية للتوعية البيئية تشمل وسائل الإعلام والمدارس والجامعات، وتطبيق نظام فرز النفايات من المصدر، مع دعم المشاريع الصغيرة في مجال التدوير من خلال منح وقروض حكومية، وتفعيل الغرامات بحق المخالفين، إضافة إلى إشراك القطاع الخاص في بناء محطات فرز ومعالجة حديثة ضمن نظام الاستثمار، وإصدار قانون شامل لإدارة النفايات يوضح آليات التنفيذ والعقوبات".
واختتم حديثه بالقول إن "أزمة النفايات في العراق ليست بيئية فقط، بل هي إدارية وثقافية في آنٍ واحد، وكل يوم تأخير في المعالجة هو يوم إضافي نحو كارثة بيئية وصحية وشيكة، لا بد من تداركها قبل فوات الأوان".
في بلد أنهكته الحروب والصراعات، تظل الطفولة واحدة من أكثر الفئات عرضة للتهميش والانتهاك. فبين الالتزامات الدولية الرفيعة، والواقع الميداني القاسي، تتسع الهوة التي تفصل النصوص القانونية عن حياة الأطفال اليومية. ورغم الخطوات الرسمية المعلنة نحو حماية حقوق الطفل، ما تزال التحديات قائمة، والمخاطر متزايدة، في ظل غياب تشريعات واضحة، واستراتيجيات فاعلة تُترجم الوعود إلى أمان حقيقي.
وأعلنت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في 6 آب الجاري، انضمام العراق رسمياً إلى التحالف العالمي لمسار إنهاء العنف ضد الأطفال، خلال مراسيم أقيمت في مقر الأمم المتحدة، ليكون بذلك الدولة الـ46 التي تنضم إلى هذا التحالف الدولي.
وقالت وكيل الوزارة للشؤون الاجتماعية، هدى سجاد، في بيان اطلعت عليه "طريق الشعب"، إن هذا الانضمام "جاء نتيجة جهود ومتابعة مستمرة من وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، ويعكس التزام العراق بتعزيز حقوق الطفل ومكافحة جميع أشكال العنف ضد الأطفال".
وأضافت، أن الخطوة "حظيت بترحيب واسع من الأمم المتحدة"، معتبرة إياها محطة مهمة تعزز صورة العراق أمام المجتمع الدولي، وتؤكد سعيه نحو توفير بيئة آمنة وحامية للطفولة، وفق المعايير والاتفاقيات الدولية المعتمدة.
فجوة بين القوانين والواقع
وذكر مصطفى عبد الواحد، المدير التنفيذي لمنظمة تدارك لحقوق الإنسان، أن "العراق ورغم توقيعه ومصادقته على اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكولين الاختياريين الملحقين بها، إلا أنه لا يزال يعاني من فجوة كبيرة بين الالتزامات الدولية والتطبيق الفعلي لها على المستوى الوطني".
وقال عبد الواحد لـ "طريق الشعب"، أن "الوضع القانوني الدولي للعراق جيد من حيث التوقيع والمصادقة على الاتفاقيات، لكن المشكلة تكمن في ضعف التنفيذ على الصعيد الداخلي، حيث ما زال العراق متأخراً على المستوى القانوني والتشريعي في ترجمة تلك الالتزامات إلى تشريعات فعلية، وتعليمات واضحة، واستراتيجيات وطنية تُعنى بحقوق الطفل".
وأضاف أن "العراق يفتقر حتى الآن إلى برامج وخطط وطنية متكاملة لحماية الأطفال"، لافتاً إلى أن المؤشرات والإحصاءات المتوفرة توضح تدهورا خطيرا في واقع الطفولة، بما يشمل تفشي ظواهر مثل الاتجار بالبشر، تشغيل الأطفال، التسول، تجنيدهم في الجماعات المسلحة، وحتى الزج بهم في تجارة المخدرات.
وتابع ان "هناك مزاعم ومعلومات عن تورط منظمات إجرامية وأطرافا مسلحة في استغلال الأطفال في تجارة المخدرات، سواء في التوصيل أو الترويج، مستغلين أعمارهم الصغيرة لتفادي الرقابة الأمنية، وهذا يفاقم من خطورة الوضع".
وأشار عبد الواحد إلى أن الصراعات والحروب الداخلية التي مر بها العراق، وخاصة بعد أحداث 2014، ساهمت بشكل كبير في تراجع حقوق الأطفال، مشيرا الى ان "البرامج الحكومية المعنية بحقوق الطفل خلال وبعد فترات النزاع كانت ضعيفة جداً، ولم ترقَ إلى مستوى التحديات الميدانية".
كما سلط الضوء على مشكلة فقدان الوثائق الثبوتية لدى آلاف الأطفال، خصوصاً في مناطق النزاع، نتيجة فقدان أو اختفاء آبائهم، وهو ما تسبب في حرمانهم من التعليم، والخدمات الصحية، والضمانات القانونية. واستشهد بتقارير من اللجنة الدولية لشؤون المفقودين والصليب الأحمر الدولي التي تشير إلى وجود نحو 250 ألف مفقود في العراق خلال العقد الأخير، كثير منهم من أولياء أمور الأطفال.
وأكد عبد الواحد وجود معلومات تُشير إلى قيام بعض الفصائل المسلحة المدعومة من الدولة بتجنيد أطفال دون سن 15 عاماً خلال النزاعات المسلحة، وهو ما يشكل انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الطفل.
وشدد عبد الواحد على ضرورة تبني العراق استراتيجيات متوسطة وطويلة الأمد لمعالجة واقع حقوق الطفل، داعيا إلى إنشاء مؤسسات وأقسام متخصصة داخل الوزارات تُعنى برصد وتقييم مؤشرات وضع الأطفال، ووضع سياسات فعالة تستجيب لمخاطر التدهور الذي تعاني منه هذه الفئة الهشة.
غياب التشريعات المحلية!
وقال أحمد الموسوي، المدير التنفيذي لجمعية مراقبة حقوق الإنسان العراقية، إن العراق قد صادق على معظم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، باستثناء اتفاقية واحدة تتعلق بحقوق العمال المهاجرين، وهو بصدد الموافقة عليها مؤكداً في الوقت نفسه أن العراق ملتزم باتفاقية حقوق الطفل، إضافة إلى البروتوكولات الملحقة بها.
وأوضح الموسوي في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "ما يُثار مؤخراً بشأن التحالف الدولي المتعلق بحقوق الطفل ليس اتفاقية، بل هو تحالف يهدف إلى تعزيز الضمانات الخاصة بحماية الطفولة، وهي خطوة إيجابية تصب في مصلحة الأطفال في العراق". لكنه أشار إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في غياب التشريعات المحلية التي تتماشى مع هذه الاتفاقيات الدولية.
وأضاف انه "برغم أن العراق صادق على اتفاقية حقوق الطفل، إلا أنه حتى الآن لا يمتلك قانونا واضح لحماية الطفل. بالرغم من وجود مسودة لقانون حماية الطفل موجودة منذ سنوات في أدراج مجلس النواب، لكنها لم تر النور بعد".
وشدد الموسوي على أهمية دعم هذا التحالف الدولي للهياكل الوطنية المعنية بحقوق الطفل، مثل وزارات العدل، والعمل والشؤون الاجتماعية، والتخطيط وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة. وأكد أن هذه الجهات تحتاج إلى "الدعم الفني والتشريعي لتتمكن من أداء دورها بفعالية".
كما لفت إلى أن السياسات السكانية التي تتبناها الدولة تتضمن فقرات متعلقة بحقوق الطفل، معتبرا أن انضمام العراق إلى مثل هذه التحالفات يمكن أن يسهم في تعزيز الضغط وكسب التأييد نحو تشريعات أفضل.
وأعرب الموسوي عن أمله بأن يشهد البرلمان العراقي في دورته المقبلة خطوات حقيقية نحو إقرار القوانين المعنية بحقوق الإنسان، وعلى رأسها قانون حقوق الطفل، مشيراً إلى أن العديد من هذه القوانين لا تزال معلقة في مجلس النواب دون تصويت.
الذاكرة لا تُدفن.. إنها تعود دائمًا، بأسماء الوقائع، والشهداء، بصورهم، بصدى أصواتهم في الساحات.
ما زالت انتفاضة تشرين، بعد مرور ست سنوات، تُقلق، وتُربك من يخاف الناس حين ينتفضون، وتُرعب من يعرف أن الذاكرة الحية أخطر من السلاح. واليوم، تعود المحاولة من جديد، ولكن بصيغة مختلفة: "مشروع استثماري" أُعلن عنه في 31 تموز 2025، يقضي بتحويل مبنى ما بات يعرف بـ"المطعم التركي"، إلى مستشفى. في الظاهر يبدو "المشروع" عملا خدميا، أما في الباطن، فهي محاولة ممنهجة لطمس أحد أبرز معالم الذاكرة الكفاحية الحديثة للعراقيين.
لقد شكل مبنى "المطعم التركي"، المطلّ على ساحة التحرير بجدارية جواد سليم من جهة، ومن الجهة الأخرى على دجلة وجسر الجمهورية، منصة للمقاومة المدنية السلمية، وفضاء للحرية، وبُرجًا رمزيًا لأحلام جيل! لا يمكن فصل هذا المبنى عن مشهد تشرين التحرري، تمامًا كما لا يمكن سلخ ساحة التحرير عن مسيرة النضال الوطني العراقي الحديث. فالمبنى، الذي سكنته أنفاس المتظاهرين وسهر فيه الشجعان على حُلمٍ بحياةٍ عادلة واسترداد وطن، ليس مجرد هيكل من الإسمنت المُتعب. إنه شاهدٌ، ومرآةُ وطنٍ حي وقف فيه شبابه ليطالبوا بما هو حق: "نريد وطن"!
وهنا علينا التذكير بالمشروع المتكامل الذي تم إعداده تحت إشراف المعماري سامان كمال، استجابة ووفاء لانتفاضة تشرين، بهدف تحويل المبنى إلى متحف خاص بذاكرة تشرين، وفتح أبوابه على الساحة ليكون جزءًا من الفضاء والذاكرة العامة. لم يكن المشروع استذكارًا للماضي فقط، بل توظيفا للذاكرة من أجل بناء وعي مدني جديد، يحترم الكرامة والحرية والعدالة.
بلدان كثيرة تحتفي بمواقع نضالها، وتحوّلها إلى معالم تربية وأمل. أما هنا، فيُراد لنا أن ننسى. ويُراد للذاكرة أن تُهدم، لا أن تُذكّر وتُطالب، ذاكرة لا تُشعل وجدانًا من جديد، فالذاكرة الجماعية ليست مجالًا للمساومات السياسية، إنها ملك الشعب، ودم الضحايا، وحق الأجيال القادمة.
ما يحدث في ساحة التحرير ليس تبديل اسم مبنى بآخر، بل محاولة خنق ساحات حرية التعبير والاحتجاج: من المطعم التركي إلى ساحة التحرير، من ساحة الحبوبي الى ساحة ثورة العشرين، في استهداف للفضاء الوطني العراقي الجامع للكفاح والابداع! يريدون محو كل ذلك بخطوة انتقامية باردة. كأن السلطة تفضّل مجددًا إعادة صبغ الجدران بدل الإصغاء لما نقشته دماء الشباب عليها، كأن الوطن يمكن أن يُشفى بنسيان الجرح، لا بتكريمه.
المثقفون والفنانون والنقابات وقوى المجتمع المدني الحية، وجميع أحرار العراق مطالبون بالوقوف بوجه هذه الهجمة، التي تُخفي خلف نواياها "التعميرية"، رغبة انتقامية دفينة بمحو كل أثر لتشرين من الوجدان العراقي.
ندعو كل الاطراف المسؤولة ومن ضمنها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والهيئات المستقلة ومن ضمنها هيئة الاستثمار الى التحرك الفوري لمنع هذا الإجراء ودعوة الجهات المعنية إلى الاستثمار والبناء الحقيقي في المؤسسات الصحية الموجودة والمستقبلية وضمن التصميم الأساسي لبغداد، والذي يشمل عشرات المستشفيات غير المنجزة وعدم السماح للعشوائية بتصدر المشهد.
في ساحة التحرير، حيث تلتقي جدارية فائق حسن بجدارية جواد سليم، وبينهما تمثال الأمومة لخالد الرحال، وعلى مقربة منها متحف الفن الحديث (قاعة كولبكيان).. هنا اجتمع الابداع بالوثبات، واختلطت دماء العراقيين، وذابت الهويات المذهبية والمناطقية في اسم واحد: العراق! هنا وُلدت ذاكرة تشرين. وهنا ستبقى!
ذاكرة تشرين.. لا تُهدَم، بل تُروى، وتُصان، وتُعلّم.
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً بين خبراء الاقتصاد والسياسة، منحت وزارة المالية، مؤخراً، مصرفين خاصين صلاحية منح الضمانات السيادية بالاشتراك مع الحكومة. المصرفان، مصرف بغداد والمصرف الأهلي العراقي، تملك فيهما البنوك الأردنية أغلبية نسبتها 51% من رأس المال، ما دفع لطرح تساؤلات مهمة حول مدى ملاءمة تفويض أدوات سيادية هامة لمؤسسات ذات ملكية جزئية أجنبية.
مختصون وصفوا هذه الخطوة بانها تحول غير مسبوق في إدارة أداة كانت حكراً على الدولة، ستترتب عليها أعباء إضافية في حال فشل المشاريع الممولة تحت هذه الضمانات، مؤكدين ضرورة اجراء مراجعة قانونية فورية وتحديد سقوف واضحة للضمانات، ووضع ضوابط اشرافية صارمة من البنك المركزي لضمان حماية المال العام.
ما الضمانات السيادية؟
الضمانات السيادية في السياسة المالية هي كفالة او تعهد رسمي من الحكومة بدفع مبلغ معين أو تحمل مسؤولية مالية إذا فشل مشروع أو جهة ما في سداد قرض حصلت عليه. بمعنى، عندما تمنح الحكومة ضماناً سيادياً، فهي تؤكد للمقرض أو البنك: “إذا لم يتمكن هذا المشروع من رد القرض، نحن سنتحمل المسؤولية وندفع بدلاً منه”. وهذه الضمانات تساعد في تسهيل حصول المشاريع والشركات على قروض من بنوك أو مؤسسات دولية، لأنها تقلل من المخاطر على المقرضين. وبالتالي، يمكن الحصول على تمويل بسهولة أكبر لدعم المشاريع الاقتصادية والتنموية في البلد.
تحتاج الى إشراف من البنك المركزي
في هذا الشأن، قال مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، د. مظهر محمد صالح، إن الدولة من الناحية النظرية يمكنها منح ضمان سيادي للمصرف الأهلي، ليقوم بدوره في ضمان القروض الممنوحة للقطاع الخاص من المصارف الأجنبية.
وأضاف أن هذا الإجراء يجعل المصرف الأهلي حلقة وسطى تتحمل المخاطر التشغيلية والائتمانية، في حين تبقى الدولة الضامن الأخير.
وأوضح في حديثه مع "طريق الشعب"، أن الهدف من هذه الخطوة هو: "تحفيز الاقراض الدولي للقطاع الخاص العراقي"، مشيراً إلى أن ذلك "أمر مطلوب وضروري لتقليل الاعتماد على الإنفاق الحكومي".
وأردف صالح بالقول: أن هذا النموذج "معمول به في دول مثل مصر وتركيا والمغرب، حيث تمنح الحكومات ضمانات لصناديق أو مصارف محلية لتسهيل اقتراض القطاع الخاص من مؤسسات دولية، منها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، وبنك التنمية الأفريقي، ومؤسسات ائتمان الصادرات الأوروبية".
وأشار إلى أن هذا النوع من التمويل يهدف عادةً إلى "دعم التمويل الدولي للقطاع الخاص، مع تقليل الضغط على الخزينة العامة، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بتكلفة تمويل أقل، وبناء سجل ائتماني دولي للقطاع الخاص العراقي".
إلا أنه اكد أن الأمر يتطلب ان تكون هناك "قيود وضوابط قانونية ورقابية جوهرية يجب مراعاتها، منها ضرورة وجود تشريع خاص أو نص في قانون الموازنة يسمح بمنح الضمانات السيادية". كما شدد على اهمية "وجود اتفاق رسمي ومحدد بين الدولة والمصرف الأهلي، لضمان التقييم الفني والائتماني للمشاريع الممولة، الى جانب ربط الضمانات بمشاريع إنتاجية قابلة للاسترداد المالي، وليس فقط المشاريع الاستهلاكية أو الخدمية".
وتابع صالح، أن من المهم أيضاً "تحديد سقف للضمانات السيادية ضمن موازنة الدولة، وإشراف دقيق من البنك المركزي ووزارة المالية على تنفيذ هذه الضمانات لتعظيم الفائدة للاقتصاد الوطني"، معتقدا ان "هذه الآلية يمكن أن تُعد أداة ذكية للدبلوماسية الاقتصادية والتمويل التنموي، طالما تستخدم بشفافية وحوكمة عالية، وضمن رؤية استراتيجية وتنموية تتماشى مع البرنامج الحكومي وخطة التنمية الوطنية 2024-2028".
تحذير من تداعيات اقتصادية
وحذر الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي من قرار التفويض الذي ستكون له آثار وانعكاسات على الأوضاع الاقتصادية العامة للبلد.
وتعقيبا على حديث المختصين بان هذا الإجراء قد يساعد في اجتذاب مزيد من المستثمرين الأجانب، نبّه الرفيق فهمي الى انه "يثير في الوقت نفسه مسألة إدارة المخاطر المرافقة لمثل هذا الاستثمارات التي يتم اجتذابها، وتوافقها مع المتطلبات والحاجات التنموية للبلد، اي نوعية المشاريع التي تمنح لأصحابها الضمانات السيادية، ومن ثم الملاءة والقدرة المالية والفنية ورصانة الجهة المستثمرة وفاعلية الرقابة والمتابعة للقرض".
ورأى فهمي أن تحقيق النتائج والأهداف المرجوة من هذا الإجراء، يتطلب "وجود تشريع منظم له، وان تكون هناك ضوابط وتعليمات صارمة تلتزم بها المصارف التي يُمنح لها التفويض، فضلا عن المتانة المالية والإدارية وسلامة أصحاب رؤوس أموال المصارف المعنية. كما على وزارة المالية والبنك المركزي ضمان توفر جميع هذه الشروط ومن ثم ممارسة الدور الرقابي المطلوب".
وأردف الرفيق فهمي كلامه بأن "الواقع المؤسسي في العراق وعناصر الضعف المشخصة في المنظومة المصرفية، بما في ذلك ظواهر الفساد وسوء الادارة وضعف الرقابة، تضعنا أمام تساؤلات جدية بشأن هذا الاجراء والمخاطر التي قد تترتب على المالية العامة. لذا يبدو من الضروري ان يصدر بشأنه تشريع، بعد ان تتم مناقشة الامر في مجلس النواب".
مخاوف قانونية ومالية
من جهته، عّد أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي، قرار وزارة المالية الاخير بأنه "تحوّل خطير في إدارة أدوات الدولة السيادية"، مبيناً ان "هذه الأداة كانت في السابق حكراً على الحكومة، والآن تُمنح لمصارف خاصة، مما يثير مخاوف جدية بشأن آثارها المالية والقانونية والمخاطر المحتملة".
وقال السعدي في حديث مع "طريق الشعب"، أن هذا التفويض يحمل ثقلًا استراتيجياً، لأن الضمان السيادي يعني التزام الدولة بتحمل جزء أو كامل المسؤولية في حال تعثر أي مشروع، مضيفا أن "منح هذه الصلاحية لمؤسسات مملوكة جزئياً لأجانب قد يحول أحد أهم أدوات السيادة إلى سلعة يمكن تداولها في السوق المصرفي".
وأضاف السعدي، أن الهواجس الأساسية تدور حول عدة أسئلة، منها: خلفية هذا القرار، ولماذا تتخلى الدولة عن سيطرتها على أداة سيادية كهذه، وكذلك وجود سابقة دولية لمثل هذا الإجراء، وأثره القانوني والمالي على العراق.
وتابع قائلاً انه "من حيث النية المحتملة أن وزارة المالية قد سعت لتفعيل دور القطاع المصرفي الخاص في تمويل المشاريع الوطنية، لا سيما في قطاعات مثل الصناعة والطاقة، لتقليل العبء المالي المباشر على الخزينة العامة".
ولفت الى أن هذا القرار "ربما يأتي في إطار إشراك القطاع الخاص في التنمية، لكنه يبقى محاطًا بمخاطر كبرى في حال عدم وجود ضوابط وتشريعات واضحة".
وعلى الصعيد الدولي، أكد السعدي أن المؤسسات الدولية التي تقدم ضمانات للمشاريع عادة ما تفعل ذلك عبر وكالات حكومية أو صناديق مملوكة للدولة، وليس عبر بنوك تجارية خاصة مملوكة لأجانب، واصفا حالة العراق في هذا الشأن بأنها "فريدة وتفتقر إلى الغطاء القانوني والمؤسسي الكافي".
ومن ناحية قانونية، بين السعدي أنه "لا يوجد حالياً نص دستوري أو قانوني يمنع وزارة المالية من منح هذه التفويضات، لكنها قد تتعارض عملياً مع صلاحيات البنك المركزي العراقي في حال لم يتم التنسيق معه"، مردفا أن "منح صلاحية سيادية لمصارف مملوكة جزئياً لأجانب يثير جدلاً قانونياً يتطلب تفسيره من قبل المحكمة الاتحادية العليا".
أما من حيث قدرة هذه المصارف على تحمل التبعات، فقد ذكر السعدي أنها "غالباً لا تمتلك رؤوس أموال كافية لتحمل تعثر مشروع كبير بمفردها، وبالتالي تتحمل الدولة جزءًا من العبء، إن لم يكن كله، لا سيما إذا حدث نزاع قانوني داخلي أو خارجي".
وأشار إلى أن المخاطر المحتملة تشمل: تحميل الميزانية أعباء إضافية في حال فشل المشاريع الممولة تحت هذه الضمانات، وأن المصارف قد تستخدم هذه الصلاحية لتعزيز موقعها التنافسي بصورة قد تخلق نوعاً من الاحتكار أو تضارب المصالح، وربما تؤدي إلى سوء استخدام موارد الدولة تحت غطاء الضمان السيادي.
واكد أن منح الضمانات السيادية لمصارف خاصة مملوكة جزئياً لأجانب يمثل "تحوّلاً خطيرًا يتطلب مراجعة قانونية ورقابية فورية، ويجب أن يكون مقرونًا بتشريعات واضحة ورقابة صارمة تضمن حماية المال العام والسيادة الاقتصادية للعراق".
واختتم السعدي بالقول إنه في حال تعثر أي مشروع، لن يكون المصرف وحده مسؤولًا، لأن الدولة هي من قدمت الضمان، وبالتالي قد تتحمل جزءاً من المسؤولية أمام المستثمرين أو المحاكم الدولية إذا تطور النزاع.
في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد، تحوّلت قبة البرلمان، امس الاول، إلى ساحة صراع مفتوحة، تسودها لغة التراشق الطائفي والمشادات الكلامية، بدل أن تكون منبرًا للتشريع والرقابة والحفاظ على مصالح الشعب؛ فجلسة الثلاثاء التي كان يُفترض أن تناقش قوانين مهمة، كشفت حجم الانحدار المؤسسي والأخلاقي الذي يعيشه مجلس النواب، بعدما بات أقرب إلى "مسرح للفوضى والانقسام" منه إلى مؤسسة دستورية رصينة.
وفيما يئنّ المواطنون تحت وطأة أزمات اقتصادية وأمنية خانقة، يغرق ممثلوهم في صراعات عقيمة، تعكس انسداد أفق المنظومة السياسية القائمة على المحاصصة، وتضع شرعية البرلمان على المحك، بل وتهدد ثقة الشارع بكل ما تبقى من ركائز الدولة.
استفحال أزمة منظومة المحاصصة
يقول الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، إنّ "ما شهدناه أمس الاول في مجلس النواب، يُشير إلى وضعٍ بائسٍ ومثير للأسى، يكشف إلى أين وصلت المؤسسة التشريعية، وهي مؤسسة أساسية وركيزة من أهم ركائز النظام الديمقراطي ونظام الدولة".
ويضيف في حديث لـ"طريق الشعب"، "لاحظنا ليس فقط السلوك المشين لبعض النواب، والذي وصل إلى حد التراشق بالمفردات والصراع بالأيدي والاشتباك، وإنما أيضًا – وربما هذا الأخطر – اللغة التي استُخدمت: لغة طائفية بامتياز، تصدر عن ممثلين ونواب يُفترض أنهم يُمثلون الشعب".
ويشير الى ان "هذا يُعبر عن الأزمة المستفحلة لمنظومة حكم المحاصصة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، والتي تظهر تداعياتها في هذه الأحداث المتلاحقة من حرائق، وصفقات فساد، وفضائح على كل المستويات، وفي التدهور الأمني، وتقاطع عمل واداء المؤسسات العسكرية والامنية، بل وحتى داخل المؤسسة القضائية".
ويؤكد أن "المنظومة الحاكمة التي تعاني من أزمة بنيوية، اليوم باتت تفقد القدرة على إدارة صراعاتها، ويبدو أن الصراعات البينية تتفاقم داخل كل هذه الأطياف والأحزاب الطائفية، سواء السنية أو الشيعية أو غيرها"، مشيرا الى ان "ما يحدث الآن هو ناقوس إنذار لكل المواطنين، ليشعروا أن هذه المنظومة، التي تحاول عبر هيمنة المال السياسي واستخدام النفوذ وموارد الدولة في الملف الانتخابي، أن تجعل من الانتخابات المقبلة أداة لتدوير الوجوه، لا أداة لإحداث انتقال نوعي وتغيير فعلي في الوضع السياسي".
ويعد الرفيق فهمي، أن ما يحصل يمثل "تحدّيا كبيرا، لكنّه أيضًا مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الناس، ليس فقط من خلال المشاركة في العملية الانتخابية، بل في مختلف مجالات الحياة"، لافتا الى أن "هذا المجلس لم يُشرّع سوى القوانين الإشكالية، القوانين الجدلية التي تُقسّم المجتمع العراقي، في الوقت الذي يواجه فيه العراق تحديات خطيرة جدًا خارجيًا، تمس سيادته وثرواته وحتى تماسكه الوطني".
ويختتم الرفيق رائد فهمي حديثه بأن "الظروف الراهنة تحتم اعلاء كلمة الوطنية والمواطنة، وكل ما يوحّد العراقيين. لكننا نلاحظ أن هؤلاء يذهبون في الاتجاه المعاكس تمامًا، فيكرّسون الطائفية ويؤججون الانقسام المجتمعي، ويجعلون العراق مكشوفًا وفريسة سهلة لكل الأجندات، بالإضافة إلى أجنداتهم الداخلية التي تقوم على إدامة الفساد، والمحسوبية، وتفكك الدولة".
استقطاب طائفي
من جهته، اتهم الاكاديمي والمحلل السياسي د. جاسم الموسوي، مجلس النواب بـ"تحويل مقر السلطة التشريعية إلى ساحة للتجاذبات الطائفية"، معتبراً أن ما جرى اخيراً من تراشق وخطابات انفعالية يعكس "الهوية الحقيقية لأعضاء في البرلمان الذين ما زالوا رهائن لمشاريعهم الطائفية ومعتقداتهم الضيقة، بدلًا من الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية".
وقال الموسوي في حديث مع "طريق الشعب"، إن “ما يحدث داخل البرلمان يتجاوز كونه خلافاً سياسياً طبيعياً، ويمكن القول انه ارتدادٌ خطير إلى نزاعات طائفية كامنة في ذاكرة وسلوك كثير من النواب، وهو ما يكشف عن فشل عميق في بناء مشروع الدولة ومأسسة العمل النيابي وفق مبادئ المواطنة”.
وأضاف أن البرلمان بات عاجزاً عن تقديم أي إنجاز تشريعي أو رقابي، وأن “الشرعية الوحيدة التي يسعى إليها كثير من أعضائه هي شرعية الظهور الإعلامي ودغدغة مشاعر المواطنين، فهم يبحثون عن شرعية طائفية لا شرعية الإنجاز أمام المواطن”.
وأشار الموسوي إلى أن ما وصفه بـ”التحشيد الطائفي” لم يأتِ بدافع ديني أو عقائدي صادق، بل بدافع انتخابي بحت، قائلاً: “هؤلاء النواب لا يتمسكون بعقائدهم بقدر ما يستثمرونها كأداة هروب من فشلهم المزمن في التشريع والرقابة”.
وأكد أن الدورة النيابية الحالية هي “الأسوأ على الإطلاق”، بسبب غياب أي دور رقابي فعّال، وعدم مساءلة أي مسؤول حكومي أو استضافة وزير واحد، فضلًا عن استغلال المنصب البرلماني لمصالح شخصية بدلًا من توظيفه في خدمة الدولة.
عمل مخزٍ
وفي السياق، وصف القاضي المتقاعد وعضو مجلس النواب السابق وائل عبد اللطيف ما جرى داخل قبة البرلمان من تراشق طائفي وعراك لفظي بأنه “عملٌ مخزٍ” يسيء لمكانة مجلس النواب، ويفضح حجم التراجع السياسي الذي تعانيه الدولة، مؤكداً أن ما صدر من سلوكيات لا يعبّر عن مؤسسة تمثّل الشعب بكل مكوناته، بقدر ما ينوه الى ان هذه المؤسسة امست تمثل اطرافا وزعامات وأفرادا ما زالوا أسرى للطائفية والانتماء الضيق.
وقال عبد اللطيف لـ"طريق الشعب"، ان “ما شاهدناه من تصرفات لا يليق بمن يُفترض أنه يمثّل العراقيين جميعاً، بغض النظر عن الدين أو المذهب أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. هذا البرلمان كان من المفترض أن يكون فوق هذه الانقسامات لا أن يغرق فيها”.
وأضاف أن “الأساس الذي بُني عليه الدستور، وخصوصاً في باب الحقوق والحريات، ينص على أن العراقيين متساوون في الحقوق والواجبات. فكيف ننتظر من المواطن أن يؤمن بالمواطنة والدولة، إذا كانت السلطة التشريعية نفسها عاجزة عن التحرر من الطائفية؟”
وأكد أن الدورة النيابية الحالية محمّلة بالضعف والانقسام، متأملا أن تكون "الدورة المقبلة مختلفة، وأن تستعيد شيئاً من المهنية التي كانت حاضرة في دورات سابقة".
صراع يكرّس الانهيار المؤسسي
الى ذلك، حذّر الخبير القانوني والمراقب للشأن السياسي، أمير الدعمي من أن ما يشهده مجلس النواب، اليوم، لا يمكن عزله عن مشهد أوسع من الانهيار المؤسسي الذي يضرب بنية الدولة العراقية، مؤكدًا أن ما يحدث داخل البرلمان من انقسامات وصراعات طائفية يُعبر عن أزمة وخلل عميق يشمل الحكومة والمؤسسة التشريعية معاً.
وقال الدعمي في حديث لـ"طريق الشعب"، إنّ “الصراع الدائر في مجلس النواب بلغ مستويات غير مسبوقة من الانحدار، خصوصاً حين يُدار بخطاب طائفي متدنٍّ ومكشوف"، مشيرا إلى أن “هذا الانفلات مرتبط بصراع محتدم في هيئة الرئاسة نفسها، وهو ما انعكس على الأداء التشريعي، وأدى إلى شلل واضح في إدارة الجلسات”.
وأضاف أن “هذا التنافس على رئاسة البرلمان لا يجري بشكل مؤسسي، بل يجري عبر أدوات سياسية تضغط خلف الكواليس بواسطة قوى سياسية متنفذة وتسعى لإفشال البرلمان من الداخل”.
وكرر الدعمي وصف الدورة البرلمانية الحالية بأنها “الأسوأ على الإطلاق”، مشيرًا إلى غياب كامل للدور الرقابي، وتوقف تمرير التشريعات، وافتقار البرلمان لأي تحرّك فعلي منذ أكثر من عام، معتقدا أن “حلّ البرلمان قبل 45 يوماً من موعد الانتخابات القادمة قد يكون الخيار الأفضل لإنقاذ ما تبقى من المشهد السياسي”.
فيما اعتبر النائب السابق أيوب الربيعي أنّ جلسة الثلاثاء بعثت رسائل سلبية للرأي العام، تتمحور حول "تكريس حجم الانقسام والاحتدام بين الكتل السياسية"، محذرا من أن تقود هذه التوترات إلى ردات فعل غير محسوبة.