تشهد البلاد تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة، تعصف ببنية المجتمع، وتعيد رسم الطبقات فيه على نحو مشوه؛ ففي ظل تصاعد التضخم وارتفاع معدلات البطالة، تتآكل الطبقة الوسطى التي كانت لسنوات تشكل عمودًا فقريًا للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. بينما تتسع الهوة بين فئات مرفهة تتمتع بثروات فاحشة، وأخرى فقيرة تكافح من أجل البقاء.
هذا المشهد المأزوم يتفاقم بفعل السياسات الحكومية غير المتوازنة واعتماد سياسة السوق المفتوح وغياب التخطيط والمنهج العملي وانتشار الفساد الذي وكل هذا وغيره يسهم في تعمّيق الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وعلى الرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها البلد، يكافح المواطن العادي من اجل الصمود في وجه الفقر والتهميش، فيما تتصاعد الدعوات لإصلاحات اقتصادية جذرية، تعيد التوازن إلى المجتمع، وتحمي الفئات الأكثر ضعفًا.
تحولات اجتماعية!
يقول الباحث الاجتماعي سلمان الشمري، أن "التحولات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى في المجتمع، ما أدى إلى تفاقم الفجوة بين طبقتين رئيسيتين: الطبقة المترفة والطبقة الفقيرة"، مضيفا أن "العوامل الاقتصادية مثل التضخم والبطالة، بالإضافة إلى السياسات الحكومية غير المتوازنة، لعبت دورًا محوريًا في هذه التغيرات".
ويضيف الشمري في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "الطبقة الوسطى كانت تمثل العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، حيث كانت تتمتع بقدرة شرائية معقولة، وتسهم بشكل فعال في الإنتاج والاستهلاك. ومع غياب الدعم المناسب لهذه الطبقة، شهدنا ارتفاعًا في معدلات الفقر وتزايد عدد الأثرياء بشكل ملحوظ، ما يعمق الفوارق المجتمعية ويؤدي إلى مشكلات جديدة تتعلق بالتهميش وانعدام العدالة".
ويشير الى أن "العراق يعاني من الفساد وسوء إدارة الدولة ومؤسساتها، وهذا سبب بارز في خلق تلك الفجوة"، مبينا انه "على الرغم من عدم وجود ارقام دقيقة عن نسب الطبقات الاجتماعية المختلفة، إلا أن الكتابات التاريخية تؤشر أن أكبر حراك اجتماعي وانتقال بين الطبقات في العراق، قد حدث بعد الخمسينيات، حيث تقلص حجم الطبقة الغنية والفقيرة وزاد حجم الطبقة المتوسطة".
ويواصل حديثه قائلاً: "أما اليوم فنرى شبانا يتجولون بسيارات فارهة في شوارع بغداد، ويرتادون أفخم المطاعم، التي تثار حولها شبهات تتعلق بغسل الأموال".
وختم الشمري بالتأكيد على ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية وتوجيه الدعم للطبقات المتضررة من أجل إعادة بناء التوازن الاجتماعي والاقتصادي، لافتاً إلى ان الأطفال هم الأكثر ضررا من تلك الفجوة الطبقية.
دعم غير كاف
يقول الباحث في الشأن الاقتصادي، عبد السلام حسن، في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "الدعم الحكومي للمواطنين غير كافٍ، وأن من الممكن توفير مستوى معيشي أفضل للعراقيين بسهولة من خلال استثمار الرسوم والضرائب بشكل صحيح".
ويعتقد حسن أن "من الممكن رفع دخل المواطن إلى أكثر من 750 ألف دينار عراقي شهرياً إذا ما تم استثمار الرسوم بشكل صحيح، دون الحاجة إلى الاعتماد على برامج النفط أو البترودولار"، مردفا أن "هذه الاقتراحات لا تلقى الاهتمام الكافي، لأن النظام الحالي ورث أفكارا متأصلة من النظام السابق، تعتمد على سياسات التجويع لضمان السيطرة على الشعب" طبقا لقوله.
وتطرق عبد السلام إلى مشكلة توظيف الخريجين، مؤكدًا أن الحل لا يكمن في تعيينهم في الدوائر الحكومية فقط، بل يجب التفكير في فتح معامل ومشاريع إنتاجية تسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي للعراق، مشيرا الى ان "فتح مشاريع إنتاجية يمكن أن يفرز دعمًا حقيقيًا للاقتصاد الداخلي، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد، ويعزز فرص العمل ويسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين".
واختتم عبد السلام حديثه بأن "الوضع في العراق يتجه نحو الأسوأ إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات عاجلة لتحسين الأوضاع المعيشية، مشيرا الى ان "التظاهرات والانفجارات الشعبية تشير إلى أن الأمور تسير في اتجاه سيئ للغاية، بدلاً من التركيز على تحسين البنية التحتية مثل الجسور، يجب أن تكون الأولوية لتحسين مستوى معيشة المواطن، ورفع قدرته الاقتصادية".
أكثر فسادا وأشد فقرا
وكشفت دراسة لمركز الأبحاث الفرنسي (CFRI) حول اتساع حجم الفوارق بين الطبقات المجتمعية في العراق، الذي يطفو على بحر من الثروات وانقسام المجتمع إلى طبقات عليا تعيش الترف، تمثلها أقلية من الشعب، وطبقة دنيا تحت خط الفقر تصارع من أجل البقاء، بسبب الفساد المستشري، وسوء إدارة موارد الدولة.
ومنذ تولي الحكومات المتعاقبة بعد 2003 إدارة البلاد ارتفعت معدلات الفقر والبطالة والفساد. وصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادًا والأشد فقرا.
وذكر مركز الأبحاث الفرنسي، أن هناك 36 مليارديرا وأكثر من 16 ألف مليونير في العراق. وبحسب الدراسة “منذ عام 2003، كانت قضية العدالة الاجتماعية في قلب الاحتجاجات المختلفة، لأسباب كثيرة ومعقدة، لكن لا بد من القول إن المجتمع العراقي منقسم الآن بين طبقة عليا حيث تعيش الأقلية بشكل مريح وطبقة دنيا حيث الأغلبية تناضل بشدة من أجل البقاء. وبين الاثنين، اختفت ببساطة الطبقة المتوسطة التي كانت حاضرة إلى حد كبير بين السبعينيات والتسعينيات".
يقول الباحث السياسي علي القيسي إن "المواطن هو المتضرر الأكبر من الخلافات والمناوشات السياسية، إلى جانب سوء إدارة الدولة والمال العام، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر"، مضيفا أنه "لم يعد صعبًا توثيق مشاهد لأطفال ونساء يبحثون في حاويات القمامة عن أي شيء يمكن بيعه لمساعدة عائلاتهم الفقيرة في مناطق عدة من العراق، على الرغم من أن العراق يُصنف من بين الدول الغنية بالموارد الطبيعية الهائلة، وفي مقدمتها النفط".
ويضيف القيسي في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "هذه العوامل أسهمت في خلق فجوة كبيرة بين طبقات المجتمع. هناك من يستطيع دفع ما يقرب من 13 مليون دينار سنويًا فقط للدراسة في كلية أهلية، بينما يكافح آخرون لتأمين أجرة النقل للالتحاق بالجامعة الحكومية. هذه الفجوة المتزايدة أسهمت في تلاشي الطبقة المتوسطة في العراق".
تحل اليوم الذكرى الخامسة لانتفاضة تشرين، التي بدأت شرارتها الأولى من ساحة التحرير، وسط بغداد، في الأول من تشرين الأول لعام 2019، قبل ان تمتد الى المحافظات، وهي تطالب بالتغيير ومحاربة الفساد. إذ لا تزال البلاد تعاني من أزمات متفاقمة على جميع المستويات، تواصل القوى المتنفذة تجاهل المطالب الشعبية التي ملأت الساحات، ما يزيد من تعقيد الأزمات وتعميقها.
تعد الانتفاضة واحداً من أبرز الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، حين خرج مئات الآلاف من العراقيين الى الشوارع، في وجه الظلم والفساد والفقر والبطالة، مطالبين بحقوقهم ومرددين شعار "نريد وطن". فقد جسّدت هذه الحركة الشعبية صوتا جريحا ينادي بالعدالة الاجتماعية، ويعبّر عن استياء عميق من جراء تنامي الثروات في يد قلة من رجال السلطة وأعوانهم.
رغم الغضب الجماهيري والمطالب الصريحة بإجراء تغييرات جذرية في المنظومة السياسية، إلا أن القوى الحاكمة والمتنفذة لم تتعظ من الدروس التي حملتها تلك الاحتجاجات.
وعي جماهيري متزايد
الدكتور عصام فيلي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، يرى أن "انتفاضة تشرين هي الحركة الاحتجاجية الجماهيرية العفوية الأولى في العراق".
وأضاف فيلي في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "المنتفضين، الذين شعروا بالظلم واليأس، تحركوا بدافع الرغبة العارمة في التغيير. هذه الانتفاضة صححت جزءًا من مسار العملية السياسية، وجعلت القوى السياسية تدرك أن الرهان على الترويج السياسي والطائفي لم يعد ينفع، بل برزت بوادر وعي جماهيري متزايد".
وأشار فيلي إلى أن "الطبقة السياسية الحاكمة باتت تدرك خطر الانتفاضة على نفوذها ومحاولات تغيير الواقع من الداخل. المنتفضون خرجوا إلى الشوارع بحثا عن العدالة الاجتماعية وسط هيمنة طبقة الاوليغارشية على ثروات البلد، واتساع رقعة الفقر".
واختتم قائلاً: إن "غياب المعالجات الحقيقية واستمرار القوى السياسية بنفس النهج المأزوم لن يؤدي إلا إلى زيادة سخط الشارع وتفاقم الأزمات".
لحظة تشرين
زين العابدين البصري، ناشط سياسي، وصف الانتفاضة بأنه "نقطة فارقة في تاريخ العراق الحديث، وخصوصاً للشباب بعد العام 2003".
وقال البصري في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن "الانتفاضة عززت الهوية الوطنية بين الشباب العراقي الذي أنهكته الصراعات السياسية"، مبينا ان "هذه اللحظة جمعت العراقيين بعيدًا عن الانتماءات الطائفية والعرقية".
وأضاف البصري ان "الانتفاضة لم تكن مجرد احتجاجات، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن رفض جيل كامل للمنظومة السياسية، التي ردت على مطالبهم بالقمع الدموي".
وتابع، ان "الانتفاضة أسهمت في خلق جيل واعٍ ومدرك لأهمية التغيير"، موضحا أن "القوى المتنفذة أدركت حجم الخطر الذي شكلته الانتفاضة على مصالحها الحزبية الضيّقة، ما دفعها للتعامل بوحشية مع الشباب العزل".
الاحتجاجات مستمرة
ورغم مرور خمس سنوات على انتفاضة تشرين، أكد البصري أن "الحركة الاحتجاجية في العراق لم تنتهِ"، مستشهدا على قوله بـ"استمرار الاحتجاجات المطلبية في مختلف القطاعات، نتيجة لتفاقم الأزمات والفساد".
وأشار إلى أن "مراكمة الأزمات ستؤدي بالضرورة إلى تفجر الأوضاع بشكل أكبر، خاصة مع تزايد وعي الشباب وإصرارهم على التغيير".
مطالبات بمحاسبة القتلة
فيما قال علي البهادلي، الذي شارك في الانتفاضة منذ لحظتها الأولى، إنها "هزت أركان أحزاب السلطة، ما دفعهم إلى اتخاذ تدابير وحشية لقمعها، تنوعت بين استخدام العنف والقتل والخطف والتهديد، بالإضافة إلى محاولات الترغيب بالمناصب والأموال والنفوذ".
وأضاف البهادلي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "القوى المتنفذة حاولت على مدار السنوات الماضية تسخير الأموال المسروقة ووسائل الإعلام الصفراء للنيل من الانتفاضة، في محاولة لتشويه صورتها خوفاً من امتداداتها الشعبية"، متسائلا عن "الأسباب وراء عدم محاسبة قتلة المحتجين والافراج عن بعض المتهمين بالقتل برغم وجود احكام قضائية بحقهم".
وأشار إلى أن "الانتفاضة رافقتها بعض الأخطاء في التنظيم: عدم وجود قيادة، غياب الاستناد إلى أيديولوجية ثورية"، منوهاً بأن "هذه النقاط كانت في البداية عنصر قوة، لكن كان يجب تدارك الأمر لاحقاً من أجل الارتكاز إلى منهجية واضحة في اتخاذ المواقف".
ووجه البهادلي "انتقادات للمشبوهين والمتسلقين الذين فضّلوا مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة".
ستحصد ثمارها
ويعتقد الناشط أن "بعض المستقلين الذين فازوا في انتخابات مجلس النواب بأصوات مناصري الانتفاضة لم يكونوا معبّرين حقيقيين عن مصالح ناخبيهم، باستثناء قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة"، موضحاً أن "الانتفاضة، كحدث تأريخي، أصبحت الآن من الماضي، لكن تأثيرها السياسي والاجتماعي في تزايد، وستحصد ثمار تضحياتها رغم مرور الوقت، خاصة إذا تم التفكير بطريقة منهجية سليمة في التحرك صوب الجماهير".
وختم بقوله: "كان الأول من تشرين الأول 2019 عبارة عن صرخة مدوية في وجه منظومة المحاصصة والفساد، وصوتا مناديا بإنقاذ البلد من عبث سراق المال العام، وكسر احتكار السلطة من قبل أقلية مرفهة تهيمن على مقدرات العراق، محصنة نفسها بالسلاح المنفلت والمال الفاسد، واستغلال مؤسسات الدولة".
في ظل هذه الظروف، تظل المطالب الشعبية قائمة، فيما يبقى السؤال الأكبر: هل ستتعظ القوى السياسية وتستجيب لمطالب التغيير، أم أن الأزمات ستستمر في التفاقم حتى تصل إلى نقطة الانفجار، مرة أخرى؟
تأتي مبادرة الحوكمة العالمية التي أطلقها الرئيس شي جينبينغ في اجتماع مجلس رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون في ظروف يواجه فيها النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية أزمة حقيقية، تلازمت مع تحديات ومخاطر جديدة تتهدد عالمنا اليوم. وكان الرئيس شي جينبينغ مصيبًا ودقيقًا في تشخيصه بأن الحوكمة العالمية باتت أمام مفترق، وأن إصلاحها بات ضرورة لحماية السلم العالمي وبناء عالم أكثر عدلًا يضمن احترام سيادة جميع الدول وحقوق شعوبها في التحرر والاستقلال والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. فخلال العقود الأخيرة أصبح النظام الدولي يمر بأزمة شرعية نتيجة لانتهاك العديد من المبادئ والقواعد التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، كحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية واحترام وحدة الأراضي وسيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الالتزام بمبدأ تعاون الدول في مواجهة التحديات العالمية مثل التغير المناخي، وفي مجال الصحة وعدم الانتشار النووي. كما اقترن كل ذلك بتراجع التعاون الدولي والعمل المتعدد الأطراف، مما كان له تداعيات خطيرة على الأمن والسلام والاستقرار في العالم، وإضعاف دور الأمم المتحدة وهيبتها وسلطتها وتهميش وكالاتها. ومن العوامل الأساسية الأخرى في زعزعة نظام الحوكمة العالمية والقناعة بشرعيته تمركز التحكم في هيئاته بيد الدول الكبرى وممثليها، على حساب تمثيل الدول النامية ومشاركتها في صناعة القرار الدولي. فأصبح النظام في حالة افتراق وعدم تناغم وانسجام مع واقع عالم اليوم الجيوسياسي والاقتصادي والتحولات التي شهدها نحو القطبية المتعددة، مع التنامي المتسارع لقوة الصين والهند والبرازيل الاقتصادية والتكنولوجية وتأثيرها في الشؤون الدولية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ومع تنامي تأثير الأحزاب والتيارات اليمينية والقومية المتطرفة وصعود العديد منها إلى السلطة في عدد من البلدان الأوروبية وفي بلدان أمريكا الجنوبية، وتولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، ازداد نظام الحوكمة العالمية هشاشة وضعفًا، ما انعكس في ازدياد بؤر الحروب والنزاعات والتوتر. ونجد في بنود مبادرة الحوكمة العالمية تأكيدًا للقواعد والمبادئ التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، والتي جرى التجاوز عليها أو التخلي عنها، كالمساواة والسيادة بين الدول والالتزام بالقانون الدولي ونبذ الازدواجية في المعايير والتطبيق الانتقائي لقواعد النظام الدولي ومواد القانون الدولي. كما جاءت بنود المبادرة منسجمة ومعززة لأهداف «ميثاق المستقبل» الذي تم إقراره في قمة المستقبل التي انعقدت في أيلول عام 2024. وإذ تشدد فلسفة المبادرة على ضرورة المحافظة على مكانة الأمم المتحدة وتعزيز هيبتها وسلطتها وضمان دورها غير القابل للتعويض في الحوكمة الدولية، فإن المبادرة تدعو إلى العمل من أجل تعزيز الديمقراطية في الحوكمة العالمية بتوسيع مشاركة الدول النامية في هيئات وأطر المنظمات العالمية، كعضوية مجلس الأمن على سبيل المثال، وعدم السماح بأن تفرض بعض الدول رؤيتها وقواعد عملها على الآخرين وعلى عمل مؤسسات نظام الحوكمة العالمية كما هو الحال حاليًا. ولا تكتفي جمهورية الصين الشعبية، من خلال الرئيس شي جينبينغ، بإعلان التزامها بالمبادئ والقواعد والآليات التي تضمنتها المبادرة، وإنما تعمل على تجسيدها عمليًا وتطبيقها في علاقاتها مع شركائها الدول في منظمة شنغهاي للتعاون، وقدمت عدة مشاريع مشتركة تنسجم مع أهداف المبادرة، وحثّت الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون على تقديم المثل في تطبيق المبادرة. إن اشتداد حدة الصراعات في عالمنا اليوم وتعمّق الاستقطاب السياسي، والتي تعكس في جوهرها تناقضات النظام الرأسمالي على الصعيد العالمي وفي مراكزه المختلفة، والتنافس المحموم على السيطرة والاستحواذ على الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة وعلى التكنولوجيا المتقدمة والأسواق، والتي وصلت حد شنّ الحرب التجارية وإطلاق العنان للتسلح المفرط، لا يشجع على التوقع بأن تلقى هذه المبادرة الاستجابة المرجوة من هذه الدول، خلافًا لمعظم دول العالم الأخرى. لذا تكتسب أهمية خاصة الدعوة لأن تلعب دول منظمة شنغهاي للتعاون دورًا نشيطًا ورياديًا في تطبيق المبادرة وتقديم أنموذج جاذب لدول العالم.
جاءت ولادة الحزب الشيوعي العراقي في 31 أذار من عام 1934، استجابة موضوعية لنشوء الطبقة العاملة العراقية وتطور نضالاتها الطبقية. وبقي الحزب طيلة ما يزيد على تسعة عقود أميناً في التعبير عن مصالحها واهدافها الأنية في الديمقراطية والخلاص من الاستغلال وتأمين مستوى معاشي يليق بها، كمنتج أرأس للخيرات المادية، وكذلك اهدافها بعيدة المدى في الحرية والمجتمع اللاطبقي.
وفي مؤتمره الحادي عشر، والذي انعقد في 2021، خصص الحزب فصلاً من برنامجه للتعريف بمفردات نضاله من أجل التطبيق الفعلي لقانون العمل النافذ رقم 37 لسنة 2015، وحماية حقوق العمال ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، ومنع تعرضهم للفصل الكيفي، ورفع مستوى معيشتهم، والعمل على تنفيذ قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال، وإصدار التشريعات الكفيلة بضمان تمثيل العمال في مجالس إدارة المشاريع والمؤسسات الاقتصادية، والحكومية منها على وجه الخصوص، وضمان الحقوق والحريات النقابية للطبقة العاملة والشغيلة في جميع المشاريع الانتاجية والخدمية بما فيها مؤسسات القطاع العام، والسعي إلى تحقيق وحدة نضال الطبقة العاملة، واحترام استقلال الحركة النقابية وحق العمال في الاضراب والتظاهر والاعتصام، وفي الوقوف بوجه أي تجاوزات على حقوقهم من أية جهة جاءت، بما فيها الجهات الحكومية، فضلا عن اقرار التعددية النقابية والتعامل المتكافئ مع الاتحادات النقابية.
كما يناضل الحزب لدعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة، التي تشغل مزيداً من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى كثير من رؤوس الأموال أو العملة الصعبة، ويدعو لرفع الحد الأدنى لأجور جميع العاملين، وحماية قدرتهم الشرائية بما يتناسب وتكاليف المعيشة المتنامية باستمرار، ولضمان حقوق ومصالح العاملين بالعقود والأجور اليومية في مختلف القطاعات وشمولهم بقانوني العمل والتقاعد والضمان الاجتماعي، ولتشريع قوانين وضوابط الصحة والسلامة المهنية في المؤسسات والمواقع الانتاجية.
ويدافع الحزب عن حقوق ومصالح الفئات المهمشة والعاملين في القطاع غير المنظم وذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، ويدعو لإشراكهم في القطاعات الإنتاجية المختلفة وتقديم الدعم والمساندة لهم، ولتشريع قوانين وضوابط الصحة والسلامة المهنية في المؤسسات والمواقع الانتاجية كافة.
ونحن في غَمْرَةِ تحضيرات مهرجانِنا السنوي السابق، وارتباطا بعدوان الكيان الصهيوني فما كان علينا إلا أن نتوقفَ عند ذلك، ونغيرَ طبيعةَ المهرجان المعروفة، الى مهرجانٍ للتضامنِ مع الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية، فكان عنوانُ مهرجانِنا الثامن هو: (مهرجانُ الدفاعِ عن الديمقراطية وحريةِ التعبير، مهرجانُ التضامنِ مع الشعبِ الفلسطيني).
ومنذُ يومِ 7 أكتوبر 2023 لم يتوقفْ حزبُنا الشيوعي العراقي، وجريدةُ "طريق الشعب" عن تقديمِ مختلفِ أنواعِ الدعم، رفضاً لحربِ الإبادة الجماعية المدمرة وحملةِ التهجير الممنهجة والتجويعِ المميت للشعبِ الفلسطيني الصابرِ والمقاوم.
اما مهرجانُنا الحالي، وإنْ كان شعارُه "خبز، حرية، دولة مدنية" يخصُّ بلدَنا العراق، لكن يمكنُنا القولُ إنه يخص فلسطين، ويخصُّ شعبَها الذي يعاني من الجوعِ وفقدانِ الأمنِ وحرب الإبادة، وهو يناضلُ من أجلِ دولتهِ المستقلة كاملةِ السيادة.
لقد كرّسَ الكيانُ الصهيوني الغاشم، كلَّ جبروتهِ وطغيانهِ منذُ أكتوبر 2023 حتى يومِنا الحالي، للنيلِ من الشعبِ الفلسطيني، واستخدمَ كلَّ ما لديه من أدواتٍ للقتل والتجويع والتهجير، وذلك بدعمٍ غير محدود من الامبريالية العالمية، وفي مقدمتها الولاياتُ المتحدة الامريكية وعددٌ كبير من الدول الأوروبية. وراح هذا الكيان المتعطش للدماء يبحثُ عن بدائلَ لاستمرارِ الحرب وتوسعتها، فاعتدى على لبنان واليمن وسوريا وايران وارتكب مجازر وحشية فيها.
إنّ الشعبَ العراقي، وقواه الوطنية ومنها حزبُنا الشيوعي، يقفُ دوماً مع شعوبِ المنطقة، ضد الاحتلال والحرب، ويناضلُ معهم من أجل حقوقِهم في العيش الكريم.. ونطالبُ اليوم بوقفِ عدوان الكيان الصهيوني على الشعبين اللبناني والفلسطيني، وأن يتحققَ السلمُ الدائم في المنطقة، عبر الاستجابة لإرادةِ شعبِ فلسطين، وتلبية حقوقهِ الوطنية المشروعة، بما فيها إقامةُ دولته الوطنيّة وعاصمتها القدس.
الحضورُ الكريم
إنّ شعار مهرجانِنا الحالي لَبالغُ الدلالةِ والعمقِ فيما يُواجه شعبُنا وقواه الوطنية والديمقراطية، وكلُّ المتطلعين إلى عراقٍ جديد، يفتحُ فضاءاتٍ أخرى ينتظرُها العراقيون.
ففي بلدِنا، اليوم، تتكاثرُ الأزمات والتعقيدات، مع غياب إمكانية تقديم الحلول من قبل القوى السياسيةِ الماسكة بالسلطة، بسبب تشبثِها بمنهجِ الفشلٍ والفساد والعجز والتقصير. إنه نهجُ المحاصصة الذي تسيّد العراق، وقاده إلى الكوارثِ والخرابِ والتراجعِ، وثلم سيادةَ وطنِنا، وفتح أبوابَه للتدخلات الخارجية.
وبسببِ هذا المنهجِ السيّئ، باتت أكثريةُ الشعبِ العراقي، تعاني من صعوباتٍ كبيرة في الحصول على لقمةِ العيشِ الكريم والسكنِ اللائق والصحّة الجيدة والتعليم المناسب. فيما تنعمُ الأقليةُ المتنفذة، التي تتماهى مع الفساد وتدعمه، بخيراتِ بلدِنا وثرواته.
وأدى هذا الى الفشلِ المتراكم، والى عجزِ مؤسساتِ الدولة عن القيامِ بواجباتها، وبات الفسادُ الذي نَخرَها يبحثُ عمّا هو متبقٍ في جسدِها، وصار يبحثُ عن قوانينَ تحميه، وتُبقي القائمين عليه في مركز الحكم.
ولم تُنفذْ حتى الآن الوعودُ الكبيرة التي قدمتها الحكوماتُ المتعاقبة، بسببِ طبيعةِ تشكيلِها، والنسق الذي تسيرُ عليه، وكذلك بفعلِ قوةِ الفسادِ والسلاح المنفلت، وأدى ذلك إلى غيابِ الأمنِ والتقدمِ والاستقرار المستدام، برغمِ ما توفّر لجميع الحكوماتِ السابقة والحالية من إمكانياتٍ مالية كبيرة، والتي جرى هدرُها بفعلِ سوء إدارة الدولة، وانعدامِ التخطيط، ونهج المحاصصةِ الطائفية الفاسد.
ولم تنتجْ الدورةُ البرلمانية الحالية قوانينَ ذات أهميةٍ كبيرة، في تعزيزِ البناء الدستوري والقانوني، بل هي شرّعتْ قانونا تنكّر لاسم البلدِ ونظامِه الجمهوري، عبر تشريعِ قانون العطل الرسمية، الذي أهمل ثورةَ 14 تموز المجيدة. فيما تسعى الكتلُ النيابية المتنفذة إلى تشريعِ قوانين أخرى بهدف الانقضاض على مدنيةِ الدولة ودستورها، ومنها محاولاتُ تعديلِ قانونِ الأحوال الشخصية النافذ، وهناك المزيد من القوانين الخلافية التي تجري تهيئتُها، لا لمصلحة الشعب العليا، إنما من أجل مصالحَ سياسية وانتخابية ضيّقة. فيما لم يقمْ مجلس النواب بتأدية دورِه الرقابي والتشريعي.
ونتيجةً لعجزِ القوى المتنفذة عن تقديم الحلول المناسبة للأزمات المتتالية، راح الكثيرُ من المواطنين، يبحثون عن فرصةٍ لنيلِ حقوقِهم، وذلك عبر الاحتجاجاتِ المطلبية، التي لم تتوقفْ يوماً، وفي عموم المدن والأرياف، وقُوبل عددٌ من هذه الاحتجاجاتِ بالتسويف والمماطلة تارةً، وبالقوة والقمع تارةً أخرى.
الأعزاء جميعاً..
وحيث الانتخابات البرلمانية على الأبواب، سواء جرت مبكرة أم التأمت في موعدِها القانوني، يبقى المهمُ التذكير بالسؤال الآتي: بعد كلِّ التجارب الانتخابية السابقة، والتي أعادت الى الواجهة ذات القوى بمنهجها المحاصصاتي التخادمي الفاشل، فأيُ انتخاباتٍ يحتاجُها شعبُنا وبلدنا؟
نحن نحرصُ على أن تكونَ العمليةُ الانتخابية رافعةً للتغيير، كما هو حال الوسائلِ النضالية الأخرى، وفي مقدمتها الحراكُ الجماهيري والسياسي لفرض إرادة التغيير.
كما إننا نسعى إلى الخروجِ ببلدنا من هذه الحلقة المفرغة، وكسر احتكار السلطة والقرار، وأنْ نكونَ مساهمين فعليين في تغييرِ موازين القوى، عبر مختلفِ وسائل النضال السلميّة، ومنها المشاركة في الانتخابات، من أجلِ تحقيقِ بديلِنا الآخر، الذي يقطعُ الطريقُ على حالة الشلل الراهنة، ويحولُ دون الانزلاقِ إلى الأسوأ، ويفتح آفاقاً جديدة واعدة لبلدنا.
لقد قرر الحزبُ الشيوعي العراقي، المشاركةَ في الانتخابات المقبلة، على اعتبارِ أنها أحد أشكال الصراع السياسي، وسنخوضُ هذا الصراعَ بعزمٍ وإرادةٍ وتصميم الشيوعيين وحزبِهم المجيد.
إننا اليوم، ومع جماهير شعبنا، والقوى المتطلعة الى التغيير، ورغم كلّ الصعوبات نعملُ على الخلاص من منظومةِ المحاصصة ومنهجها وإحلالِ البديل الديمقراطي، الذي يقود بلدَنا إلى الديمقراطية الحقّة واحترامِ حقوق الإنسان وتطبيقِ مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية.
سنكون نحن الشيوعيين العراقيين في الميدانِ الانتخابي، مثلما كنّا في الميدانِ الاحتجاجي، خصوصاً في انتفاضةِ تشرين التي حلّت هذه الأيام ذكراها الخامسة، والتي قدمنا فيها شهداءَ اعزاء.
العزيزات والاعزاء..
لقد حَفَل مهرجانُنا التاسع هذا اليوم بالعديد من الفعالياتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافية والفنية، وتصدرت فعالياتِه قضيةُ فلسطين وشعبِها الصامد في مواجهةِ آلة القتلِ الصهيونية المدعومة من أمريكا وحلفائها، وكذلك لدعمِ الشعبِ اللبناني الشقيق، ونجددُ تضامنَنا هنا مع كلّ شعوبِ المنطقةِ، ومنها أيضا الشعبُ السوادني الذي يواجهُ أزمةَ الحرب الأهلية التي تدار بالوكالة.
لقد تضمن منهاجُ مهرجانِ "طريق الشعب" التاسع، الذي احتفى بالراحل الرفيق المناضل إبراهيم الحريري (شخصية المهرجان) لهذه العام، فعالياتٍ مختلفة، نظمتها اللجنةُ التحضيرية، ومنها ندوةُ الحصول على المعلومة، وكذلك الحوارية الواسعة مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.. وسوف تستمعون بعد قليل الى ما تبقى من فعالياتٍ فنيةٍ تضامنية.
كذلك نُظمت الخيمُ المنتشرة في جوانبه، فعالياتٍ ثقافيةً واجتماعيةً وفنية متنوعة. وهنا لا بد من توجيهِ التحية والشكر الى جميع المشاركين في هذا المهرجان.
الشكرُ الجزيل الى الشغيلةِ والمتطوعين ، الذين حرصوا على بناءِ هذه الخيم، وسوف يسهرون على رفعِها بعد انتهاء المهرجان، كما في المهرجاناتِ السابقة.
الشكرُ الجزيل، لجميعِ الجهات التي شاركت وساهمت ودعمت المهرجانَ..
الشكر الوفير للقواتِ الأمنية على توفير الأمن منذُ يوم امس،
سيبقى صوتُ الشيوعيين العراقيين وجريدة "طريق الشعب" ومنابرِه الإعلامية الأخرى عالياً من أجل الوطن الحر والشعب السعيد..
سنناضلُ من أجل حقوقِ المرأة والطفولةِ والشباب والطلبة، وعمومِ شغيلةِ اليد والفكر..
عاش شعبُ فلسطين الصامد المقاوم..
عاش شعبُ لبنان المكافح الصابر
عاش شعبُنا العراقي والمجدُ لشهدائه الأبرار..
شكراً لكم جميعا
والى المهرجان العاشر لجريدتنا الغراء "طريق الشعب"، والتي كما كانت ستبقى أداةً فاعلة للدفاع عن مصالح الشعب والوطن وكادحيه، ومن اجل نشرِ قيمِ حقوق الانسان والتنوير والعدالة والديمقراطية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
كلمة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي القاها الرفيق حسين النجار عضو المكتب السياسي للحزب، في حفل ختام المهرجان