في كل موسم انتخابي جديد في العراق، تتكرّر مشاهد استغلال النفوذ والمال العام، وسط غياب قوانين وإجراءات حازمة وضعف أدوات الرقابة؛ فلا تكافؤ في الفرص بين المرشحين المستقلين ومرشحي الأحزاب النافذة، ولا ضمانات حقيقية لنزاهة السباق الانتخابي.
أدوات انتخابية
المال السياسي، المناصب الحكومية، المشاريع الخدمية، وحتى رواتب الرعاية الاجتماعية، تتحوّل إلى أدوات انتخابية بيد الأطراف المتنفذة، بينما تغيب الكفاءة وتتراجع ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية. وعلى الرغم من التصريحات الرسمية المتكررة بشأن محاربة الفساد الانتخابي، إلا أن الواقع يُظهر بنية انتخابية هشّة تتكرّس فيها السلطة لا تتداول.
وفي هذا المشهد المتكرر المألوف يتكرس المال السياسي كأداة أساسية لتشكيل النفوذ والتأثير على نتائج الانتخابات، وفقاً لما يؤكده النائب أسامة البدري، الذي يرى أن الظاهرة لم تعد مجرد انحراف عابر، بل أصبحت جزءا راسخاً من الثقافة الانتخابية في البلاد.
ويصف البدري لـ "طريق الشعب"، ظاهرة "سلطة المال" بأنها باتت السمة الأبرز للمحطات الانتخابية المتعاقبة، مشيراً إلى أن استخدام النفوذ المالي لم يعد يقتصر على شراء الأصوات، بل تطور إلى ما يُعرف بـ "الاستثمار السياسي"، وهو، بحسب تعبيره، تحول خطير يفرغ الديمقراطية من جوهرها، ويحوّل العملية الانتخابية إلى سوق للنفوذ والمصالح.
لجان رقابية على المتجاوزين
من جانبه، أكد رئيس الفريق الإعلامي في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، عماد جميل، تشكيل لجان رقابية مركزية وفرعية لمتابعة قضية استخدام المال العام والمال السياسي في العملية الانتخابية، بالتنسيق مع الجهات الرقابية المعنية، وعلى رأسها هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية.
وقال جميل، إن "المفوضية، وبالتعاون مع القضاة ورئاسة الإدارة الانتخابية، شددت على أهمية فرض رقابة صارمة على استخدام المال أو ممتلكات الدولة في الحملات الانتخابية"، مشيراً إلى أن "المفوضية بادرت بتشكيل لجان مركزية في مكاتب المحافظات، إضافة إلى لجان فرعية بلغ عددها قرابة 1079 لجنة".
وأضاف أن "هيئة النزاهة شكلت بدورها لجاناً لمتابعة هذا الملف، كما سيكون لديوان الرقابة المالية دور فعّال في تدقيق إيرادات ومصروفات الأحزاب السياسية"، مبيناً أن "هناك قسماً خاصاً في المفوضية معنيًا بإدارة الأحزاب ومتابعة هذا الجانب".
وأكد جميل أن "المفوضية تعمل وفق القانون، وأن هذا القانون سيُطبق على الجميع دون استثناء، بهدف منع استغلال المال العام أو اللجوء لشراء البطاقات الانتخابية"، داعياً "جميع الأطراف إلى الالتزام الكامل بالقواعد والضوابط التي تحفظ نزاهة الانتخابات وعدالتها".
اختلال تكافؤ الفرص بين المرشحين
الخبير في الشأن الانتخابي، دريد توفيق، قال أن المال السياسي يُضخ بشكل غير منضبط في العملية الانتخابية في العراق، بسبب غياب التشريعات التي تضع حدودا واضحة للإنفاق المالي أثناء الحملات الانتخابية، ما يؤدي إلى اختلال تكافؤ الفرص بين المرشحين.
وقال توفيق لـ طريق الشعب"، أن "المشكلة الحقيقية تبدأ من قانون الانتخابات نفسه، سواء كان القانون رقم 4 لسنة 2023 أو القانون رقم 9 لسنة 2021، أو حتى القوانين التي سبقتهما، فجميعها لم تتضمن قيودًا صارمة على المال السياسي، ولم تضع سقفًا ماليًا واضحًا للإنفاق على الحملات الانتخابية".
وأوضح توفيق، أن غياب هذه القيود سمح بتحول الدعاية الانتخابية إلى أداة للهيمنة المالية بدلًا من كونها وسيلة لتقديم البرامج.
وأضاف "اليوم لم تعد الدعاية تقتصر على الملصقات والصور واللافتات، بل توسعت لتشمل هدايا، سفرات، ولائم، وعزائم تُستغل فيها الظروف المعيشية الصعبة للناخبين من أجل التأثير على قراراتهم".
وأشار إلى أن هذه الأساليب تنتهك مبدأ العدالة الانتخابية، وتُعزز من هيمنة أصحاب المال والنفوذ، بينما يُقصى المرشحون الذين لا يملكون موارد مالية ضخمة، حتى وإن كانوا يمتلكون كفاءة وبرنامجا نزيها.
وبيّن الخبير الانتخابي، أن تعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، خصوصًا ما ورد في تعليمات رقم 5 لسنة 2023، حددت سقفا ماليا بلغ 250 دينارا لكل ناخب، لكنه وصف هذا السقف بأنه "مرتفع جدا"، ولا يضع حدا فعلياً للإفراط في استخدام المال!
فساد منظم ومحمي
فيما قال المحلل السياسي د. أحمد الحمداني إن "المال السياسي أصبح أداة خطيرة لتدمير العراق"، مؤكدا أن اغلب الكتل السياسية المتنفذة، استخدمته في تحقيق مصالحها الشخصية والحزبية الضيقة على حساب الشعب، وسط غياب تام للمحاسبة أو المساءلة القانونية".
وأوضح الحمداني لـ "طريق الشعب"، أن "العراق اليوم لا يعاني من الفاسدين فقط، بل من غياب من يحاسبهم"، مشيرا إلى أن "المال السائب يعلم على السرقة، وهذا ما حدث فعليا بعد عام 2003، حيث أصبح الفساد منظما ومحميا من أعلى الهرم السياسي".
وأكد أن "أغلب الموجودين في السلطة استباحوا المال العام من دون أن يردعهم وازع أخلاقي أو وطني، لأنهم ببساطة لا يمثلون سوى مصالح أحزابهم وعوائلهم، لا مصلحة الشعب العراقي. كل شيء صار يُوظَّف لخدمة المصالح الحزبية الضيقة والطموحات الشخصية".
تكريس للسلطة والنفوذ
وشدد الحمداني على أن المال السياسي صار وسيلة لتكريس السلطة والنفوذ، وأضاف: "ما نشهده في كل دورة انتخابية هو ضخ مئات الملايين من الدولارات من قبل الأحزاب المتنفذة، ومن أجل شراء الأصوات، وكسب الناخبين والمرشحين، دون اعتبار للعدالة أو التنافس الشريف".
وتابع: "نحن لا نتحدث عن حالات فردية، بل عن منظومة كاملة تمأسس فيها الفساد، وتحولت الدولة إلى مزرعة تُدار بعقلية الغنيمة. الميزانيات توضع وتُوزع ليس على أساس احتياجات المواطنين، بل على أساس اعتبارات سياسية".
وأردف الحمداني ان "القوانين في العراق لم تُسن لصالح المواطن، بل على مقاس المتنفذين. لا يوجد قانون يحاسب الوزير، أو المدير العام، أو رئيس الكتلة، لأن السلطة بيدهم، والقلم الأحمر بيد من يتبعهم. المواطن مغلوب على أمره".
وأضاف ان "العراق يعيش أزمة اقتصادية خانقة، وبدل أن تُوجه الثروات لحل الأزمات، تُستخدم في تضخيم أرصدة الفاسدين، وتوسيع نفوذهم. المال السياسي صار وقودا للدمار، لا للبناء".
واختتم بالقول: "العراق اليوم بحاجة إلى من يمتلك الجرأة ليقول للفاسد: كف عن السرقة. بحاجة إلى قيادات جديدة، تحترم كرامة الإنسان، وتعيد بناء الدولة على أساس المواطنة والعدالة. أما ما نشهده الآن، فهو تفكك كامل، وغياب لأي حلول جذرية تنقذ هذا البلد".
الحلول الانية
وفي الختام، لا بد من التأكيد أن المشاركة في الانتخابات لم تعد مجرّد حق دستوري فحسب، بل تحوّلت إلى واجب وطني وأداة فعلية لمعاقبة الفاسدين واستعادة القرار الشعبي من أيدي القوى التي عبثت بمصير البلد طيلة الدورة التشريعية الحالية وما سبقها. إن ترك صناديق الاقتراع فارغة لا يُسقط الفاسدين، بل يُمنحهم تفويضاً جديداً للاستمرار في فسادهم، بينما يبقى الصوت الانتخابي النزيه هو السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة وصناعة التغيير الحقيقي.
في الوقت الذي تتسارع فيه الدعوات لتبني أنظمة بيئية وصحية متطورة، لا تزال إدارة النفايات الطبية في العراق تشكل تحدياً كبيراً وخطراً داهماً يهدد الصحة العامة والبيئة على حد سواء؛ حيث تتفاقم أزمة النفايات الصحية التي تُتلف بطرق غير آمنة، وتُحرق في مواقع لا تراعي الشروط البيئية، وأحيانًا تُرمى في مكبات عشوائية وسط المناطق السكنية، برغم التعليمات الملزمة الصادرة منذ العام 2015 عن وزارة البيئة، إلا أنّ شهادات ناشطين وأطباء ومختصين تؤكد أن الواقع بعيد كل البعد عن النصوص القانونية: قنابل بيولوجية وكيميائية صامتة تنتشر في الشوارع والمكبات، ومحارق بدائية تنفث سمومها في قلب المدن، بينما تستمر المؤسسات المعنية في تجاهل التحذيرات وتهميش الحلول الجذرية.
تحذير من كارثة بيئية وشيكة
وكشفت وزارة البيئة، في 20 تموز عن تعليمات تتعلق بإدارة النفايات الصحية الصادرة عام 2015.
وذكر المتحدث باسم الوزارة لؤي المختار، أنها "تُعد ملزمة لجميع المؤسسات الصحية في العراق، سواء في القطاع العام أم الخاص، وتشكل المرجع القانوني والفني في التعامل مع هذا النوع من النفايات".
وبيّن المختار في حديث تابعته "طريق الشعب"، أنّ "تعليمات رقم (1) لسنة 2015 الخاصة بإدارة نفايات الجهات الصحية، وهي وثيقة تهدف إلى حماية البيئة وصحة المجتمع من التلوث والمخاطر المرتبطة بالنفايات الطبية”، مشيرا إلى أن "وزارة الصحة تعمل بالتعاون مع مؤسساتها على تنفيذ هذه التعليمات وتشديد الرقابة البيئية على المرافق الصحية".
وأضاف مدير عام في وزارة البيئة، صلاح الزيدي، أن "النفايات الصحية تُصنف ضمن فئة النفايات الخطرة، سواء كانت صلبة أو سائلة، لأنها ناتجة عن نشاطات طبية وتحتوي على ملوثات كيميائية وبيولوجية قد تسبب أضرار جسيمة إذا لم يُحسن التعامل معها".
وأوضح الزيدي لـ "طريق الشعب"، أن "النفايات الصحية، رغم أنها تندرج من الناحية القانونية تحت مفهوم النفايات الخطرة، إلا أنها تتميز بخصوصية تستوجب معالجتها بطرق متخصصة. النفايات الصلبة مثل بقايا غرف العمليات، الأدوات الطبية، الأدوية منتهية الصلاحية، والمستلزمات المستخدمة تُعتبر جميعها نفايات طبية خطرة، ويتم التعامل معها من خلال عمليات تعقيم دقيقة، أبرزها التعقيم بالبخار، لتحويلها إلى نفايات غير خطرة يمكن التخلص منها عبر المطامر البلدية الاعتيادية، شرط التأكد من خلوها من أي عناصر معدية أو سامة.
وأشار الى أن "النفايات التي تحتوي على أنسجة بشرية أو بقايا من العمليات الجراحية الكبرى، تتطلب معاملة خاصة من خلال محارق مخصصة ذات معايير بيئية صارمة. هذه المحارق يجب أن تكون بعيدة عن التجمعات السكنية، وأن تُدار ضمن ضوابط الانبعاثات المعتمدة، ولا يُسمح بإقامتها في المراكز الصحية الصغيرة أو العيادات، بل تكون حكرًا على المستشفيات الكبيرة القادرة على جمع وفرز النفايات بشكل منتظم وآمن".
وتابع أن النفايات السائلة الناتجة عن المستشفيات تُعد من أخطر أنواع النفايات، كونها تمتزج غالبًا بفيروسات وجراثيم مصدرها جسم الإنسان، ما يجعلها مصدر تهديد بيئي وصحي مباشر. وتكمن الخطورة بشكل خاص في مياه الصرف الصحي والمحاليل الكيميائية المستخدمة في المختبرات، إضافة إلى الأدوية السائلة منتهية الصلاحية، وكلها مواد يجب معالجتها داخل وحدات متخصصة قادرة على إزالتها بشكل كامل قبل طرحها في شبكات التصريف العامة.
وشدد على ضرورة وجود وحدات معالجة داخل كل منشأة صحية، مهما كان حجمها، لضمان التخلص الآمن من النفايات السائلة، مؤكدا أن التعامل البيولوجي والكيميائي السليم مع هذه النفايات هو الضمان الوحيد لمنع انتقال العدوى والتلوث إلى البيئة المحيطة. كما أوضح أن هناك جهودًا علمية مستمرة لتطوير وسائل وتقنيات جديدة قادرة على تحويل النفايات الصحية الخطرة إلى نفايات آمنة بيئيًا، وهي خطوات بدأت بعض الدول باعتمادها تدريجيًا، ويُعمل على إدخالها في العراق أيضًا ضمن خطة شاملة لتحسين إدارة النفايات الطبية.
وأكد في ختام حديثه أن إدارة ملف النفايات الصحية لا ينبغي أن تُترك لجهة واحدة فقط، بل تتطلب تنسيقًا عاليًا بين وزارات البيئة والصحة والبلديات، إضافة إلى إدارات المستشفيات نفسها. فالإهمال في هذا الملف لا يؤدي فقط إلى تدهور بيئي، بل قد يُفضي إلى كوارث صحية، مشيرا إلى أن النفايات الطبية ليست مجرد مخلفات بل تمثل تهديد حقيقيا إذا لم تُعاج بعناية ودقة.
الرقابة ضعيفة والوعي غائب
وحذرت نجوان علي، الناشطة البيئية من التزايد المقلق في كميات النفايات الصحية والطبية التي تُتلف بطرق غير آمنة، مشيرة إلى أن هذه النفايات تُعد من أخطر أنواع النفايات لما تحمله من ملوّثات بيولوجية وكيميائية شديدة الخطورة.
وذكرت علي لـ "طريق الشعب"، أن "النفايات الصحية ليست مجرد نفايات عادية، بل هي قنبلة موقوتة يمكن أن تؤدي إلى انتشار أمراض خطرة مثل التهاب الكبد، والتسمم، والعدوى البكتيرية، إذا لم يتم التعامل معها وفق الإجراءات الصحية والبيئية السليمة".
وأضافت، أن من أكثر الممارسات خطورة هو "قيام بعض المؤسسات وخصوصاً في القطاع الخاص، بالتخلص العشوائي من هذه النفايات، سواء عبر رميها في مقالب النفايات العامة أو حرقها في أماكن غير مخصصة لذلك، ما يشكل تهديداً مزدوجاً للبيئة والصحة العامة".
وأشارت إلى أن هذه التصرفات تتكرر في ظل ضعف واضح في الرقابة البيئية، وغياب الوعي بأهمية التعامل السليم مع النفايات الخطرة، مؤكدة أن "الرقابة وحدها لا تكفي، ما لم يرافقها وعي مجتمعي وإجراءات قانونية صارمة ومستمرة بحق المخالفين".
واختتمت حديثها بالدعوة إلى تشجيع الاستثمار في محارق النفايات الطبية الحديثة، التي تراعي المعايير البيئية العالمية، قائلة: "نحتاج إلى حلول مستدامة، وليس إلى ترقيع المشاكل. على الجهات المعنية أن تتعامل مع هذا الملف بجدية تامة، لأن تداعياته تمس كل فرد في المجتمع، دون استثناء".
مخالفات بيئية صارخة
وحذر دكتور في الصحة العامة، منير القيسي من التهديد البيئي والصحي الخطير الذي تشكله محارق النفايات الطبية المنتشرة في وسط العاصمة بغداد، لاسيما تلك القريبة من مدينة الطب والمراكز الصحية المحيطة بها، مؤكدا لـ "طريق الشعب"، وجود هذه المحارق في مناطق مكتظة سكانية يعد مخالفة بيئية صارخة تعرض حياة الآلاف للخطر.
وقال القيسي ان "هناك محارق تعمل بالقرب من مدينة الطب في وسط بغداد وهي تطلق انبعاثات سامة في الهواء، تحتوي على مواد مسرطنة مثل الديوكسين والفوران، وهي غازات خطرة على الجهاز التنفسي وتُسهم في زيادة حالات الأمراض المزمنة بين سكان المناطق القريبة".
وأضاف، أن "العديد من هذه المحارق تُدار بوسائل بدائية وغير مطابقة للمعايير الدولية"، مشيرا إلى أن "ما يزيد من خطورتها هو تواجدها وسط الأحياء السكنية، في بيئة من المفترض أن تكون خالية من أية ملوثات خطرة". كما أشار إلى أن بعض المستشفيات تفتقر حتى إلى أسس فرز النفايات الطبية أو معالجتها قبل الحرق، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الصحية والبيئية.
وأضاف ان "المشكلة لا تتوقف على وجود المحارق فقط، بل تمتد إلى فوضى واضحة في إدارة النفايات الطبية داخل المستشفيات. لا يوجد التزام بطرق الفرز، ولا رقابة فعلية على عمليات النقل أو الحرق، وبعض المستشفيات تقوم بإحراق النفايات مباشرة دون تعقيم، ما يجعل من هذه الممارسة تهديدًا مضاعفًا للصحة العامة والبيئة".
وأكد أن حملات عدة نفذت سابقا من قبل أطباء ومختصين وناشطين في المجال البيئي للتحذير من هذه الكارثة، وتم تقديم دراسات وبيانات توضح حجم الضرر الناتج عن استمرار هذه الممارسات، إلا أن الجهات المسؤولة بحسب تعبيره "إما غير واعية بخطورة الملف أو تتعامل معه بجهل ولا مبالاة مقلقة".
وأوضح أن تجاهل هذه التحذيرات سيقود إلى عواقب صحية كبيرة، وقد بدأت تظهر بوادرها بالفعل في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية والحساسية والسرطان في المناطق المجاورة لتلك المحارق، داعيا إلى الإسراع في إنشاء منظومة وطنية متكاملة لإدارة النفايات الطبية، وإبعاد المحارق عن المناطق السكنية، واعتماد تكنولوجيا صديقة للبيئة وفق المعايير الدولية.
واختتم حديثه بالقول: "نحن لا نطالب إلا بتطبيق أبسط قواعد السلامة. أرواح الناس ليست هامشا، واستمرار هذا الإهمال يعني أننا نسير نحو كارثة صحية بصمت".
رغم أنها تبدو في ظاهرها سلوكًا فرديًا ناتجًا عن الفقر أو الحاجة، إلا أن ظاهرة التسول في العراق تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى مشكلة مركبة، وملف شائك ومتعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الاجتماعي مع الأمني، ويتداخل فيه الاقتصادي مع الثقافي والسياسي.
فعلى الأرصفة، وفي التقاطعات، وأمام المراكز التجارية والمستشفيات ودور العبادة، بات مشهد المتسولين مشهداً يومياً مألوفاً، غير أن ما خلف هذا المشهد من وقائع وشبكات وعوامل محركة يكشف عن أزمة أعمق بكثير من مجرّد عوز مادي.
وبهدف معالجة هذه الظاهرة والحد منها، وافق مجلس الوزراء على إطلاق حملة وطنية لمكافحة التسول، وتكليف وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني العراقي بالتنسيق مع الجهات المعنية الأخرى لتنفيذ الحملة.
عوامل اقتصادية وتداعيات امنية
ويؤكد مختصون ان ظاهرة التسول في العراق اليوم باتت انعكاساً لفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ونتاجاً لغياب العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات، وضعف أدوات الدولة في معالجة الفقر، فضلاً عن استغلال الظاهرة من قبل جماعات منظمة تتجاوز حدود السلوك الفردي لتصل إلى الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر.
ترويج للمخدرات ومناطق محمية بالنفوذ
في جنبتها الامنية، حذر الخبير الأمني صفاء الأعسم من خطورة ظاهرة التسول في العراق، معتبراً أنها لم تعد مجرد سلوك غير حضاري، بل تحوّلت إلى ملف أمني معقد يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار المجتمعي.
واوضح لـ"طريق الشعب"، إن “التسول في العراق اليوم بات نشاطاً منظماً تقوده عصابات متخصصة، بعضها يوزع المواد المخدرة، بما في ذلك الحشيشة والكوكايين والكبتاغون، مستغلّة المتسولين كغطاء لترويج هذه السموم”، مشيراً إلى أن “الاتفاقات بين المروجين والتجار تتم أحياناً من خلال هؤلاء المتسولين”.
وأكد الأعسم أن هذه العصابات تمتلك نفوذاً واسعاً، وتسيطر على مناطق معينة تمنع فيها أي جهة أخرى من الاقتراب أو المنافسة، وهو ما يدل على امتلاكها للسلاح وعلاقات قوية تحميها من المحاسبة.
وأضاف ان "المتسولين في الشوارع لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وبعضهم مطلوب للقضاء أو على ارتباط بجهات مشبوهة، وهو ما يمنحهم نوعًا من الحصانة غير المباشرة".
وكشف الأعسم عن شبكة تضم اكثر من 15 متسولاً تدر أرباحاً يومية قد تتجاوز 10 ملايين دينار، ما يعادل أكثر من 3 مليارات دينار سنوياً، مؤكداً أن “الأرقام صادمة، وهذه شبكة واحدة من بين العديد، وأن هذه الشبكات تملك فروعا منتشرة في عدة محافظات، وتعمل تحت حماية جهات متنفذة مقابل مبالغ مالية أو تسهيلات لوجستية”.
وأشار إلى أن هذه الشبكات "لا تقتصر على التسول وترويج المخدرات، بل تتورط أيضاً في جرائم أكبر مثل الاتجار بالأعضاء البشرية واختطاف الأطفال، مؤكدًا أن “كل حالة اختطاف طفل تقريبًا تصب في مصلحة تلك العصابات، التي تعتبر المتسولين الواجهة الأولى لأنشطتها”.
ورحّب الأعسم بتصريح وزير الداخلية بشأن إنهاء ظاهرة التسول في عام 2025، معتبراً أن الأمر قابل للتحقيق إذا توفرت الأوامر الصارمة والدعم السياسي الكامل.
وأتم الخبير الأمني حديثه بالاشارة الى ان "هذه الشبكات تعمل كمنظمات متكاملة، لديها أماكن سكن جماعية، ونظام داخلي موحد، يشمل توزيع الرواتب والطعام، ما يجعل من الصعب تفكيكها دون جهد أمني منسق ومستمر”.
المعالجة تبدأ من جذور الأزمة
وفي الجانب الاجتماعي لهذه الظاهرة، أكد الباحث الاجتماعي نشوان محمد أن ظاهرة التسول في العراق لا يمكن معالجتها بشكل جذري من خلال حملات أمنية فقط، بل تتطلب معالجة شاملة تمتد إلى الجذور الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تغذي هذه الظاهرة.
وقال محمد في حديث لـ"طريق الشعب"، ان "تكليف القوات الأمنية بجمع المتسولين من الشوارع والتقاطعات خطوة ضرورية، لكنها تبقى حلاً مؤقتاً وليست المعالجة الحقيقية”، مشدداً على أن “التسول هو في جوهره ظاهرة اجتماعية، وله أسباب عميقة مرتبطة بالبنية الاقتصادية، وأخرى تعود إلى الثقافة المجتمعية”.
وأوضح أن الفقر يشكل السبب الرئيس لانتشار التسول، نتيجة الأزمات الاقتصادية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتنامي الفوارق بين طبقات المجتمع، خصوصًا في ظل تراجع دور الطبقة الوسطى.
واضاف ان "الواقع يشير الى وجود طبقة فقيرة جداً لا تجد أمامها خيارات كثيرة، فيلجأ أفراد منها إلى التسول في التقاطعات، أو أمام المراكز التجارية، ودور العبادة، والمستشفيات، بل وحتى منازل الأحياء الراقية".
ونوه الباحث الى أن “العامل الاقتصادي ليس الوحيد في هذه الظاهرة، فهناك أيضاً أسباب ثقافية واجتماعية تلعب دوراً مهماً. فبعض العوائل، رغم فقرها المدقع، ترفض التسول بشكل قاطع، حتى لو عانت الجوع، وهو ما يعكس منظومة القيم المتجذرة في بعض البيئات العراقية”.
ودعا محمد إلى تعزيز الوعي الاجتماعي ومقاومة ثقافة التسول، خصوصًا ما يتعلق باستغلال النساء والأطفال في هذه الظاهرة، المرفوضة اجتماعيا.
وخلص الى القول: “يجب أن نوجّه رسائل توعوية واضحة للمجتمع، فالكثير من المتسولين لا يفعلون ذلك بدافع الحاجة الحقيقية، بل بدافع الطمع أو بدوافع مرضية، وهذا يتطلب مقاربة مجتمعية إلى جانب المعالجة الأمنية”.
غياب العدالة الاجتماعية
الى ذلك، أكد الخبير في الشأن الاقتصادي صالح الهماشي أن ظاهرة التسول المتفشية في المدن تمثل انعكاساً مباشراً لفشل السياسات الاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، محذراً من أن المعالجات الأمنية وحدها لن تكون كافية دون إصلاح جذري للمنظومة الاقتصادية في البلاد.
وقال الهماشي في حديث مع "طريق الشعب"، ان "التسول لم يعد سلوكاً فردياً عابراً، وانما أصبح نتيجة منطقية لانعدام العدالة في توزيع الثروات، وتآكل الطبقة الوسطى، وغياب أي دور حقيقي للدولة في توفير شبكات الحماية الاجتماعية للفئات الهشة والفقيرة”.
وأشار إلى أن الانكماش الاقتصادي، وارتفاع نسب البطالة، وتضخم السوق غير الرسمية، كلها عوامل ساهمت في دفع عشرات الآلاف إلى الهامش، لافتاً إلى أن “الكثير من المتسولين هم ضحايا ظروف قسرية أُجبروا على التسول في ظل انعدام فرص العمل وانهيار منظومة الرعاية”.
وأوضح الهماشي، أن الأزمة "لا تقتصر على الفقر بوصفه رقما إحصائياً، بل تشمل غياب التنمية المستدامة، وضعف الخطط الحكومية في تمكين الفئات الأكثر احتياجًا، خصوصًا في المناطق الطرفية، والتي غالباً ما تكون الحاضنة الأساسية لانتشار التسول".
وأضاف ان "تراجع دور الدولة الإنتاجي، وترك السوق للعشوائية، وسوء التخطيط المالي، كل ذلك أنتج فجوة طبقية كبيرة بين الأغنياء والفقراء، في ظل عجز الدولة عن ضمان الحد الأدنى من الدخل أو الخدمات، ما يدفع البعض إلى التسول كخيار قسري أو منهجي”.
ودعا الهماشي إلى “إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتفعيل أدوات الحماية الاجتماعية بشكل صحيح، وتوفير فرص عمل حقيقية للعاطلين والفقراء، لا الاكتفاء فقط بمنح اعانات اجتماعية، إذا ما أرادت الدولة القضاء على التسول بوصفه مظهراً من مظاهر الانهيار الاقتصادي قبل أن يكون مسألة سلوكية أو جنائية”.
خلال أقل من شهر، جرى تسجيل أكثر من 17 هجوماً، استهدفت منظومات دفاع جوي وقواعد عسكرية في بغداد وصلاح الدين وذي قار وكركوك، إلى جانب 11 هجوماً مركّزاً على مطار أربيل وحقول نفطية تشغّلها شركات أجنبية في إقليم كردستان، الأمر الذي اضطر الحكومة العراقية الى تشكيل لجنة تحقيقية، واعقبتها بلجنة اخرى، توصّلت إلى أنّ الجهة المسؤولة عن الهجمات «سياسية ولديها جناح عسكري فعّال في الداخل، وأنّ الطائرات انطلقت من منطقة جرف الصخر». وقد أثار البيان الصادر عن الحكومة بشأن نتائج التحقيق في الهجمات التي استهدفت مواقع رادارات ومنظومات دفاعية باستخدام طائرات مسيّرة، ردود فعل متباينة في الأوساط الأمنية والسياسية، وسط تحذيرات من تداعيات داخلية خطرة، واتهامات بوجود “توازنات وضغوط” تعيق كشف الحقائق كاملة للرأي العام.
ورغم ما تضمنه البيان من تأكيدات بشأن تحديد الجهات المنفذة ومواقع انطلاق الطائرات، إلا أن عدم الإعلان عن أسماء المتورطين، وتوقيت نشر النتائج، دفعا خبراء أمنيين إلى التحذير مما وصفوه بـ”حالة التستر” على بعض الأطراف، واحتمال دخول البلاد في موجة توتر داخلي جديدة، إذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة وشفافة.
جهة واحدة
وأعلن الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، صباح النعمان، في بيان عن أن اللجنة التحقيقية العليا التي شُكّلت بأمر من رئيس الوزراء، وأنهت أعمالها بشأن الهجمات التي استهدفت منظومات الرادارات الدفاعية في عدد من القواعد العسكرية، بواسطة طائرات مسيّرة انتحارية نُفذت في توقيتات متزامنة. وأشار البيان الذي حصلت عليه "طريق الشعب"، إلى أن التحقيقات، التي شارك فيها كبار الضباط والمختصين، توصلت إلى نتائج “مهمة وحاسمة”، أبرزها: تحديد منشأ الطائرات المسيّرة التي تبين أنها مُصنّعة خارج العراق وتحمل رؤوساً حربية مختلفة، ورصد أماكن انطلاقها بدقة داخل الأراضي العراقية، إضافة إلى كشف الجهات المتورطة في التخطيط والتنفيذ، والتي وُصفت بأنها “جهة واحدة منظمة” بناءً على تطابق نوع الطائرات المستخدمة.
كما شمل التحقيق بحسب البيان تحليلاً فنياً دقيقاً لمنظومات التحكم والاتصال، ما مكّن الفرق الاستخبارية من جمع بيانات دقيقة عززت نتائج اللجنة.
الإعلان جرى تحت ضغوط سياسية
وللتعليق حول نتائج التحقيق قال الخبير الأمني عدنان الكناني أن الإعلان عن نتائج التحقيق بشأن الهجمات الأخيرة تم تحت ضغوط سياسية كبيرة، مورست على اللجنة التحقيقية والحكومة العراقية على حد سواء، مشيراً إلى أن “الإفصاح عن النتائج دون الكشف عن أسماء المتورطين، يبعث رسالة ويفتح الباب أمام تأويلات تمسّ مصداقية الدولة”.
وقال في تصريح لـ”طريق الشعب”، إن “الإعلان عن النتائج دون تحديد الأسماء يمثل خللاً خطراً في التعامل مع الرأي العام، ويعزز حالة التستر على الجهات المتورطة، الأمر الذي يضع الحكومة في موقف بالغ الحرج”، مضيفاً أن “ما صدر عن اللجنة يبدو كأنه تسريب مقنن وليس كشفاً شفافاً، وهو ما قد يُفهم منه أنه رسالة موجّهة ضمن توازنات معقدة”.
وأضاف أن “الحكومة باتت فعلياً بين المطرقة والسندان؛ فهي من جهة مطالبة بإظهار الحقيقة، ومن جهة أخرى تواجه نفوذاً كبيراً للفصائل المسلحة التي تمتلك تأثيراً مباشراً داخل مؤسسات الدولة”، مؤكداً أن “الحكومة نفسها خرجت من رحم هذه الفصائل، ولهذا من الصعب عليها أن تتمرد على من كان سبباً في وجودها”.
وحذر من أن البلاد دخلت “دائرة خطر حقيقية”، قائلاً: “لا نريد أن نشهد فوضى داخلية بين أبناء الشعب الواحد، ولا أن تتأثر العلاقة بينهم نتيجة هذه الأحداث، لكن بعد إعلان اللجنة، يبدو أن هناك الكثير سيتغير”.
وفي ختام حديثه، ثمّن الكناني دور اللجنة التحقيقية، مشيداً بـ”شجاعتها واحترافيتها في الكشف عن الحقائق دون مجاملة، على عكس لجان سابقة اختارت التغاضي عن ملفات حساسة وغضّت الطرف عن المسؤولين الحقيقيين”.
فيما قال الباحث في الشأن السياسي، أحمد السعيدي، إنّ التحقيقات الحكومية الأخيرة تعكس حرجاً واضحاً في التعامل مع جهات مسلّحة داخلية تمتلك نفوذاً سياسياً وعسكرياً واسعاً. وامتناع الحكومة عن تسمية الجهة المنفّذة رغم تأكيدها أنها واحدة، يشير إلى سعيها لاحتواء التوتّر داخل معسكر قوى السلطة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات.
جهات داخلية تقف خلف الضربات
من جهته، قال الخبير الأمني سرمد البياتي إن من حق الدولة العراقية أن تحتفظ ببعض المعلومات الأمنية وعدم الكشف عنها في الوقت الحالي، خاصة وأن هناك مجاميع وأفراداً متورطين في الهجمات الأخيرة لم يُلقَ القبض عليهم بعد.
وأوضح في تصريح لـ”طريق الشعب”، أن “البيان الحكومي ما يزال مبهماً في بعض جوانبه، لكن من الطبيعي أن تتكتم الدولة على التفاصيل، لا سيما أن العمليات الأمنية لا تزال جارية، وهناك تحركات في صحراء الحضر مرتبطة بالهجمات، وربما كانت السيارات التي نُفذت بها العمليات تنطلق من هناك نحو أهداف في إقليم كردستان”.
وأضاف أن “استهداف الرادارات مكّن الجهات الأمنية من تحليل خط سير الطائرات وطريقة تصنيعها، ما أدى إلى تحديد المجاميع المسؤولة عن الهجوم، وهي خارجة عن القانون”، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن “الإعلان عن هذه الجهات مرهون باستكمال إجراءات إصدار أوامر القبض”.
وبيّن البياتي أن “الحكومة ستُعلن بشكل رسمي عن نتائج التحقيق حال تنفيذ أوامر القبض بحق المتورطين، أما ما يُتداول حالياً من تسريبات حول التحقيقات، فهو غير دقيق ومجرد اجتهادات لا تستند إلى معلومات مؤكدة”.
وخلص الى القول: ان “نتائج التحقيق ستوضح للرأي العام أماكن انطلاق الطائرات والمجاميع المسؤولة عنها، والحكومة ستُعلن لاحقًا أن هذه الجهات داخلية وخارجة عن القانون، بعد إلقاء القبض عليها رسمياً وإيداعها في السجون”.
رغم الأعباء المالية المتزايدة التي يتحملها المواطن، نتيجة ارتفاع الضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة المفروضة على مختلف الخدمات والمعاملات الرسمية، لا تزال البنى التحتية لمختلف القطاعات الخدمية في وضع مترد، والخدمات الحكومية الاساسية شبه غائبة.
ضرائب بلا خدمات حقيقية
يقول عضو اللجنة القانونية النيابية، عبد الكريم عبطان، أن "من غير المنطقي أن تستمر الدولة بفرض رسوم دون توفير الحد الأدنى من البنى التحتية أو الخدمات الأساسية"، مؤكداً أن "الضرائب كلها يتوجب أن تفرض وفق مستند قانوني".
وأضاف أن "الإطار القانوني لفرض الضرائب والرسوم موجود ضمن القوانين النافذة، لكن الإشكالية تكمن في سوء تطبيق هذه القوانين، أو في عدم توجيه هذه الإيرادات بالشكل الصحيح الذي يضمن عودة النفع للمواطن".
وأشار إلى أن "المواطن يدفع مبالغ مالية لقاء خدمات – كمولدات الكهرباء مثلاً – لكنها لا تعمل بالكفاءة المطلوبة، ما يزيد من معاناته ويثير تساؤلات حول جدوى هذه المدفوعات"، مؤكدا أن "الضرائب يجب أن تقابل بخدمة فعلية، كالماء، والكهرباء، والنظافة، والتأمين الصحي والتعليم، وغيرها من الخدمات الأساسية".
وأوضح أن "بعض الدول تستثمر أموال الضرائب في خلق فرص عمل، وتحقيق تنمية اقتصادية، وتحسين البنية التحتية، بينما نجد في العراق ضعفا في هذا الجانب، الأمر الذي يُكرس فقدان الثقة بين المواطن والدولة".
وختم عبطان بالقول "نحن مع دعم استمرارية مؤسسات الدولة، ولكن من الضروري وضع نظام محاسبي شفاف يحكم جباية وإنفاق الأموال العامة خاصة مع وجود تهرب وظيفي، وإيجاد رقابة حقيقية تضمن وصول العائدات إلى مكانها الصحيح، بما يخدم المواطن ويعزز من سيادة القانون".
النظام الضريبي يغذي التهرب!
ويؤكد الباحث الاقتصادي أحمد عيد، أن جباية الضرائب في العراق تعاني من ضعف هيكلي، يعود أساسا إلى الفساد الإداري والتعقيد البيروقراطي، ما يؤدي إلى عرقلة تحصيل الإيرادات ويحد من فاعلية النظام الضريبي.
وأضاف عيد في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "غياب الثقة بين المواطن والدولة يُفاقم من ظاهرة التهرب الضريبي، فحين لا يلمس المواطن أثرا ملموسا للضرائب في تحسين الخدمات، يتراجع التزامه الطوعي بسدادها".
ورأى عيد أن النظام الضريبي الحالي لا يعكس العدالة الاجتماعية، إذ تستغل الشركات الكبرى والأفراد النافذون الثغرات القانونية للتهرب من الضرائب، بينما يقع العبء الأكبر على الطبقات الفقيرة التي لا تتلقى مقابلاً عادلاً، مشيرا الى أن “المواطن لا يشعر بجدوى دفع الضرائب، خاصة في ظل تدني مستوى الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، فضلا عن غياب الشفافية في الإنفاق العام".
وشدد على أن الإصلاح يبدأ بتحديث النظام الرقمي للجباية، ما يساهم في محاربة الفساد وتحسين الكفاءة، إلى جانب ربط الإيرادات بتحسين الخدمات الحيوية، ونشر الميزانيات بشكل دوري وتفعيل آليات المحاسبة، بما يعيد بناء الثقة ويعزز الالتزام الضريبي لدى المواطنين.
المواطن يشعر بالظلم
من جهته، حذر الباحث الاقتصادي عبد الله محمد من اتساع الفجوة بين ما تجبيه الدولة من ضرائب ورسوم سنوياً، وبين ما تقدمه من خدمات عامة، معتبراً أن هذا التناقض ساهم بشكل مباشر في تآكل ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، وأدى إلى عزوف الكثيرين عن دفع فواتير الكهرباء والماء.
وقال محمد لـ"طريق الشعب"، إن "الحكومة تستوفي تريليونات الدنانير من الضرائب والرسوم سنوياً، لكنها لا تقدم خدمات تتناسب مع هذه المبالغ، لا في قطاع الكهرباء، ولا الصحة، ولا البنية التحتية"، مضيفاً أن "هذا الواقع يدفع المواطن للشعور بالظلم والتهميش، ويُضعف من ثقته بالمنظومة المالية للدولة".
وأضاف أن "الضرائب والرسوم تُحول إلى خزينة الدولة وفق خطط مالية محددة، لكن توزيعها لا يجري بشكل مدروس أو عادل، ولا يُراعي الفروقات والاحتياجات الفعلية للمدن والمناطق العراقية"، مشيراً إلى أن "العديد من الشوارع الرئيسية لا تزال تعاني من الحفر، رغم استيفاء رسوم سنوية من أصحاب المركبات تحت عنوان صيانة الطرق".
وانتقد محمد الزيادات الأخيرة في الضرائب والرسوم الجمركية على المواد المستوردة، واصفاً إياها بـ"غير المدروسة"، وقال: إن "ما حصل مؤخراً من رفع للضرائب تم دون سابق إنذار، مما أضر بالتجار وأربك السوق المحلي، في ظل ارتفاع أسعار السلع الأساسية".
وأشار إلى أن ضعف السيطرة على بعض المنافذ الحدودية ساهم في زيادة عمليات التهريب، خاصة مع ارتفاع التعرفة الجمركية، ما أدى إلى خلق سوق مزدوجة تُضر بالاقتصاد الرسمي وتُضعف المنافسة العادلة.
وفيما يتعلق بالإصلاح، دعا محمد إلى ربط الضرائب بتحسين الخدمات، مؤكداً أن "أي نظام ضريبي عادل يجب أن يشعر المواطن بثماره مباشرة، سواء في شكل طرق أفضل أو مستشفيات وكهرباء مستقرة".
كما طالب بتعديل قانون ضريبة الدخل رقم 113 لسنة 1982، واصفاً إياه بأنه "قديم، وغير متناسب مع واقع، ولا يحقق العدالة الاجتماعية".
وشدد على أهمية اعتماد نظام ضريبي تصاعدي يراعي ذوي الدخل المحدود، ويركز على النشاطات التجارية والمالية الكبرى، بدلاً من الضغط على الطبقات المتوسطة والفقيرة، مشيراً إلى أن "الضرائب يجب أن تُستخدم أداة لتحقيق العدالة، لا وسيلة لتكديس العبء على الفئات الأضعف".
واختتم حديثه بالتأكيد على ضرورة تعزيز الشفافية عبر نشر بيانات مالية دورية تُبين حجم الإيرادات الضريبية وسبل إنفاقها، إلى جانب تحفيز الإنتاج المحلي قبل فرض ضرائب جديدة على المستوردات، لتفادي ارتفاع الأسعار دون وجود بدائل وطنية.
إيرادات الضرائب بحاجة لتوزيع عادل
وكان عضو اللجنة العليا للإصلاح الضريبي، خالد الجابري، قد ذكر في حديث سابق ان "الرسوم، هي من صلاحيات الوزارات. أما الضرائب فتُفرض بقانون وليس تعليمات وزارية"، مشيراً الى "المادة 28 من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نص على أنه لا تفرض الضرائب والرسوم، ولا تعدل، ولا تجبى، ولا يعفى منها إلا بقانون".
وبين، أن "الرسم يختلف عن الضريبة لأنه عبارة عن مبالغ تدفع للدوائر والمؤسسات مقابل الخدمات التي تقدمها دوائر الدولة للمواطنين"، لافتاً إلى أن "الضرائب تجبى من الدخل المتحقق باستمرار، بينما الرسم يؤخذ مرة واحدة فقط".
واضاف أن "الضرائب تذهب إلى الخزينة العامة، لكن التصرف بها من قبل الجهات المعنية لا يتم وفق دراسة جادة لتوزيع المبالغ بين المحافظات حسب حاجتها"، مبيناً أن "بعض المدن العراقية ما تزال تعاني من انعدام أو ضعف البنى التحتية الأساسية".
إن موارد الدولة من رسوم وضرائب تحتاج إلى المزيد من الشفافية والسيطرة وأن تكون أداة لإعادة توزيع الدخل وإنصاف المهمشين والفقراء وذوي الدخل المحدود. وأصبحت الحاجة ماسة إلى إصلاح النظام الضريبي وجعله تصاعدياً وتطبيق القانون على الجميع وجباية الضرائب بعيداً عن المحاباة والاستثناءات.