تداول عدد من الناشطين السياسيين والقانونيين ما وصفوه بالاستعراض الواضح والصريح للكسب غير المشروع من قبل بعض النواب والسياسيين الذين يوثقون بأنفسهم مواكب عجلاتهم وإمكاناتهم المالية الضخمة، والتي تأتي متزامنة مع الترويج الانتخابي الاستباقي.
ودعا النشطاء هيئة النزاهة إلى التحقق من الموارد المالية لنواب وسياسيين ظهرت مقاطعهم في وسائل التواصل الاجتماعي وهم يتجولون بأرتال من السيارات "الفاخرة" التي لا تتناسب مع الموارد المالية لعضو مجلس النواب، مؤكدين ضرورة ان تلعب الهيئة دورا أكبر في التحقق بالكسب فير المشروع ورصد هذه الحالات عبر فرق الرصد.
وأثارت المقاطع المتداولة استياء كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، لما تظهره من استعراض فاضح للأموال، تزامنا مع الحملات الانتخابية الاستباقية التي يخوضها بعض السياسيين. وفي الوقت نفسه تنطلق تحذيرات من قيادات سياسيين نافذة في النظام السياسي، من خطورة استغلال المال السياسي ووصول تسعيرة المرشحين الى مئات الملايين.
وكانت هيئة النزاهة أطلقت تزامنا مع ترويج الدعايات الانتخابية قبيل انتخابات مجالس المحافظات، نهاية العام 2023، حملة "من أين لك هذا؟"، التي استهدفت تضخم أموال المرشحين.
وكانت الهيئة قد طالبت مفوضية الانتخابات في حينها بإلزام مرشحي الأحزاب بكشف وتقديم ذممهم المالية، لكن تحقيق ذلك كان يبدو صعبا على المفوضية.
وطبقا لمراقبين، فإن إطلاق حملة استباقية مماثلة قبيل الانتخابات البرلمانية يشكل "خطوة صحيحة" من أجل درء شبهات الفساد وتوظيف المال السياسي انتخابيا. كما عدوا هذه الحملة تزيد من فرص إجراء انتخابات أكثر نزاهة، وتحد من استخدام الأموال من قبل مراكز قوى ومرشحين للتأثير في خيارات الناخبين وتوجهاتهم.
هل يمكن تفعيل "من أين لك هذا؟"
الباحث بالشأن السياسي، الأكاديمي د. غالب الدعمي، يرى ان نقطة الانطلاق الأولى في محاسبة المسؤول المشكوك بأصول أمواله هو الإبلاغ عن هذا المسؤول، وفي نفس الوقت، لا يخفي الدعمي تجنب الكثير من المواطنين الإخبار عن مثل هكذا شخصيات.
وقال الدعمي لـ"طريق الشعب"، ان "هيئة النزاهة تحتاج الى فتح دعوى قضائية بتضخم أموال السياسيين والنواب، حتى تبدأ بالتحقيق في هذا الملف، وقانون الهيئة يجيز لها محاسبة الناس الذين يملكون هذه الأموال".
وأوضح، انه "إذا ما ظهرت على المرشحين أو غيرهم شبهات فساد او تضخم في الأموال، فان النزاهة تتحرك بعد تلقي الأدلة من مبلغين عن ذلك، ليجري تغريم المدان بضعف المبلغ، ويحكم عليه بالسجن من سنة الى سبع سنوات".
وأشار الدعمي الى ان "لا دعوى دون مدعٍ، ولا ملاحقة قضائية دون شكوى وتحقيق، وهيئة النزاهة أيضا جهة تحقيقية وليست قضائية، بمعنى انها تحقق فيما يردها وتعرضه على القضاء والأخير هو من يأمر باستمرار مجريات القضية من عدمه"، موضحا ان "الإخبار يقدم الى الهيئة في دائرة التحقيقات، وهي من تقوم بالتحري بعد الإخبار".
ضرورة تطبيق قانون الأحزاب
من جهته، قال المتحدث باسم هيئة النزاهة، علي محمد، ان "المكلف بوظيفة من منصب مدير عام إلى رئيس الجمهورية يقدم كشفا بحساباته المالية، فيما الموظف العادي، وبطبيعة الحال، إذا تبين هناك تضخم في أمواله وممتلكاته فيجري تدقيق مصادرها، وغالبا ما تكون عن طريق إبلاغ النزاهة بالموضوع".
وعن إمكانية ملاحقة السياسيين غير المكلفين بالخدمة الوظيفية، لا سيما من يقومون بالاستعراض بهذه الأموال، بيّن المتحدث ان النزاهة أيضا تنتظر إبلاغا بحق هؤلاء المسؤولين، فضلا عن إمكانية تطبيق قانون الأحزاب بحقهم فيما إذا كانوا ينشطون في الدعاية الانتخابية الصريحة.
وتعد الانتخابات البرلمانية القادمة بدورتها السادسة، من أكثر الدورات تعقيدا منذ سنوات، بحسب العديد من المراقبين، حيث بات العراقيون يواجهون العديد من المشكلات في اختيار ممثليهم، في ظل ارتفاع أعدادهم، ووجود المال السياسي، الذي يعيق وصول المستقلين للسلطة.
وفي الانتخابات النيابية السابقة، كان المال السياسي أحد أبرز العوامل التي ساعدت بعض الأحزاب على توجيه دعاية انتخابية ضخمة، مستغلة موارد الدولة أو الدعم المالي غير المعلن.
دعوات لمراقبة نشاط المرشحين
القانوني والمحلل السياسي، أمير الدعمي، ذكر لـ"طريق الشعب" انه "في الآونة الأخيرة شاهدنا مظاهر المرشحين بمواكبهم الفخمة ويظهر عليهم الثراء الفاحش ويقدمون عطاءات مادية كبيرة، وبالتالي يجب على هيئة النزاهة ان يكون لها دور في محاسبة ومراقبة المرشحين، وخصوصا أصحاب هذا المواكب التي تثير الانتباه والريبة، عبر تفعيل حملة (من أين لك هذا) التي اطلقتها قبل الانتخابات المحلية قبل عامين".
وقال الدعمي ان "هيئة النزاهة يحق لها استجواب ومساءلة هؤلاء من دون تقديم أي بلاغ"، مبينا ان "الهيئة مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بالمراقبة والمساءلة بخصوص هذه الأموال وتفعيل سؤال (من اين لك هذا؟)، لاسيما في ظل التنافس الانتخابي المحموم ودخول المال السياسي في التنافس".
وأضاف ان "الهيئة الآن، للأسف، بعيدة كل البعد عن مساءلة مثل هؤلاء"، مبينا ان "المغريات التي تقدم للمرشحين والأموال والبازار السياسي لشراء الأصوات والمرشحين يجب ان تخضع جميعها لسؤال النزاهة".
وأنهى الدعمي حديثه بالقول ان "عدم وجود تنافس حقيقي بعيدا عن المال السياسي، يؤثر في مشاركة المواطن بالانتخابات، ومساءلة هؤلاء يعطي اطمئنانا للناخب".
لا يزال القطاع المصرفي العراقي يعاني من حالة من التدهور والضعف المزمن، بفعل تراكم الإخفاقات المالية وضعف رأس المال، وعوامل عديدة، ما عرقل دوره الحيوي في دعم الاقتصاد الوطني.
ولا مجال للشك بأهمية إصلاح القطاع المصرفي وتطويره في العراق، وبضمنه مصرف الرافدين الذي يشكل حجر الزاوية في النظام المالي للدولة ونظام المدفوعات الحكومية.
شروط الهيكلة الناجحة
ورغم أن هذه الخطوة ضرورية، يؤكد الخبراء ضرورة تنفيذها بحذر وبشكل تدريجي، مع تعزيز الحوكمة والشفافية، لتفادي مخاطر الخصخصة السريعة وعدم ابقاء اي نفوذ سياسي في الادارة الجديدة للمصرف وغيرها، بما يضمن استعادة ثقة المستثمرين والمواطنين على حد سواء.
كيف تتم الهيكلة؟
في هذا الصدد، قال المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، د. مظهر محمد صالح، أن مصرف الرافدين – أحد أكبر المصارف الحكومية التجارية في العراق – تعرض في فترات سابقة إلى إخفاقات متراكمة شكلت عائقاً كبيراً أمام تطوره، رغم كونه يمثل العمود الفقري لنظام المدفوعات الحكومية.
وقال صالح في حديث مع "طريق الشعب"، إن “العمليات المالية الحكومية والفردية أصبحت متداخلة إلى حد كبير، في وقت يعاني فيه المصرف من ضعف في رأس المال، واعتماد شبه كلي على السيولة الحكومية، إلى جانب محدودية علاقاته المصرفية الدولية”.
وأشار إلى أن مصرف الرافدين "يشكل بمفرده نحو 60% من إجمالي أصول المصارف في العراق، وهو ما يعكس حجمه الكبير وأهمية إصلاحه ضمن إطار أوسع لتطوير القطاع المصرفي في البلاد".
وأوضح أن “الدراسة التي تعدها حالياً شركة (إرنست أند يونغ) تتجه نحو فصل المصرف إلى كيانين مستقلين؛ الأول يُطلق عليه (الرافدين 1)، وسيكون مصرفاً مساهماً يُفتح المجال فيه أمام مساهمة المواطنين، على أن تبقى حصة الحكومة فيه دون 25%، لتجنّب تحويله إلى قطاع مختلط مختلط أو خاص بالكامل”.
وبيّن أن “الرافدين 1” سيكون مندمجاً بشكل فعّال مع البيئة المصرفية الوطنية والدولية، وسيُدار بمشاركة شريك استراتيجي مصرفي (دولي أو إقليمي)، ويعتمد على التكنولوجيا الرقمية والمالية الحديثة، كما سيعمل على تمويل التجارة الخارجية وتعزيز الاستثمار الداخلي، ليشكل نقلة نوعية في بنية القطاع المصرفي العراقي الذي يعاني من عزلة بين المصارف الحكومية والخاصة.
وأضاف ان “الهدف هو تأسيس مصرف يمتثل للمعايير الدولية، خالٍ من إشكاليات غسل الأموال، ويواكب التطورات التكنولوجية، بما يساهم في تحسين بيئة العمل المصرفي في العراق”.
الرافدين التقليدي
أما الكيان الثاني، بحسب صالح، فسيُبقي على “الرافدين التقليدي” كمصرف حكومي بالكامل، يُعنى حصراً بالعمليات المالية الحكومية، ويكون الذراع المصرفي الرسمي للدولة، مسؤولًا عن إدارة حساب الخزينة الموحد وكافة المدفوعات الحكومية.
وأوضح أن “الرافدين 1 الذي ستتم خصخصته بطريقة ضمانية سيكون منفصلًا تمامًا عن الرافدين 2، وسيتعامل مع السوق المصرفية والمواطنين بصفته شركة مساهمة كبرى، مع شريك استراتيجي مصرفي”، مشيرًا إلى أن "تفاصيل رؤوس الأموال، وعدد الفروع، وحجم الأصول، وآلية التحول، ستُحدد بدقة ضمن الدراسة المتكاملة التي تعمل على إعدادها الشركة الاستشارية، والمتوقع أن تُنجز وتُقدَّم نهاية العام الجاري".
اشراك القطاع الخاص
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه أن "عملية إعادة هيكلة مصرف الرافدين تمثل خطوة بالغة الأهمية في مسار إصلاح القطاع المصرفي العراقي، لكنها تتطلب تنفيذاً دقيقا ومتدرجاً لتفادي أية تداعيات سلبية".
واوضح عبدربه في حديث لـ"طريق الشعب"، أن “الهيكلة الناجحة يجب أن تبدأ بإصلاحات إدارية وتقنية شاملة، وتنقية الميزانية العمومية من الأعباء المتراكمة، وتعزيز مبادئ الحوكمة والشفافية”، مشدداً على ضرورة "إشراك القطاع الخاص تدريجياً، دون التنازل عن السيطرة الاستراتيجية للدولة على المصرف".
وحذّر من “مخاطر الخصخصة السريعة أو العشوائية، أو بيع الأصول بقيمة تقل عن قيمتها الحقيقية، فضلًا عن إبقاء النفوذ الحكومي داخل الإدارة الجديدة للمصرف، وهي كلها عوامل قد تقوض أهداف الإصلاح بدلًا من تحقيقها”.
وتابع أن نجاح هذه العملية “يساهم في استعادة الثقة بالقطاع المصرفي، ويعزز جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، ويرفع كفاءة النظام المالي ككل”، إلا أنه في المقابل نبه إلى أن “أي خطأ في التنفيذ قد يقود إلى أزمات مالية أو اجتماعية يصعب احتواؤها لاحقاً”.
كما جرت العادة، تذيّل العراق مرة اخرى تصنيفًا دولياً آخر، وهذه المرة في مؤشر “جودة النخبة” العالمي، بهدف تقييم مدى مساهمة النخب الحاكمة في خلق قيمة مستدامة، تخدم المجتمع عوضا من الانخراط في أنشطة تهدف إلى استخراج القيمة لفائدة مصالح ضيقة وخاصة.
ويشير معنيون الى أن البلاد تقف أمام فجوة متسعة بين الدولة ومجتمعها، تُعمّقها منظومة تغلب الولاء على الكفاءة، والمصالح الخاصة على المصلحة العامة.
تصنيف مُخجل
وحلّ العراق في مرتبة متأخرة ضمن مؤشر "جودة النخبة" العالمي، الذي يقيس مدى إسهام النخب الحاكمة في تحقيق منفعة عامة للمجتمع، مقابل السعي لتحقيق مكاسب شخصية.
وبحسب التصنيف، الذي يصدر ضمن إطار الاقتصاد السياسي، فقد جاء العراق في المرتبة 146 من أصل 151 دولة شملها التقييم، متقدماً فقط على اليمن وسوريا والسودان وهايتي وأفغانستان.
ويعتمد المؤشر على 4 أبعاد رئيسية: القوة الاقتصادية، السلطة السياسية، القيمة الاقتصادية، والقيمة السياسية، لتحديد ما إذا كانت نخب الدولة تحقق قيمة صافية للمجتمع أم تعمل لتحقيق مصالحها الخاصة.
نخبة من ورق
وللتعليق حول ذلك، قال السياسي والقاضي المتقاعد، وائل عبد اللطيف: إن هذا المؤشر الذي وضع العراق في المرتبة 146 من أصل 151 دولة في قائمة الدول، يعبّر بصدق عن الواقع المتردي للطبقة الحاكمة، بل ربما كان المؤشر متساهلا معهم، “لأن مكانهم الحقيقي هو المرتبة الأخيرة تماماً إن لم يكن خارج التصنيف".
وأضاف عبد اللطيف في حديث مع "طريق الشعب"، أن "الأزمة لا تقتصر على الفساد أو الفشل الإداري، بل تتعلق بانهيار شامل في منظومة القيم والكفاءة داخل المؤسسة السياسية في البلد".
وتابع قائلاً ان "القوى المسيطرة على الحكم في العراق ليس قادرًا على إنتاج نخب سياسية حقيقية، أنتج طبقة مترفة تحتقر المواطن وتستغل موارد الدولة لمصالحها الخاصة. الوزراء يتنقلون بين الوزارات بلا اختصاص، ويُعيّنون على أساس الولاء لا الكفاءة، في مشهد لا يمت للدولة الحديثة بأي صلة".
وأشار عبد اللطيف إلى أن الدولة "أصبحت “مجزأة”، حيث يشتغل كل طرف سياسي بمعزل عن الآخر، والوزارات والمحافظات تُدار كأنها إمبراطوريات خاصة"، مشيراً الى أنه "لا توجد حكومة موحدة، ولا مشروع وطني واضح. البرلمان عاجز، والوزارات تتحرك وفق مصالح الأحزاب التي تتقاسم النفوذ”.
وانتقد عبد اللطيف في السياق "استمرار الطبقة السياسية نفسها في الحكم رغم فشلها الواضح، محمّلاً المواطنين جزءًا من المسؤولية، كونهم يعيدون انتخاب الشخصيات ذاتها رغم التجربة المريرة".
وأكد أن المرجعية الدينية في النجف كانت واضحة في رسائلها السياسية، حيث دعت إلى "إحالة كبار الفاسدين إلى القضاء والاستفادة من الكفاءات الوطنية، لكن هذه الدعوات لم تجد آذانًا صاغية، بل جرى الالتفاف عليها".
واختتم حديثه بالقول: ان “العراق لا يعاني من نقص في العقول، بل من إقصائها. هناك كفاءات وطنية نزيهة، لكن لا يُسمح لها بالوصول. ما نحتاجه اليوم هو وعي شعبي يرفض انتخاب الفاسدين، ويُقصي اصحاب ولاءات الخارج، ومن باع الوطن، ومن لا يمتلك الحد الأدنى من الكفاءة والنزاهة”.
العراقيون يستحقون نخبة أفضل
من جهته، أكد المراقب للشأن السياسي داوود سلمان أن ما يُطلق عليه “النخبة الحاكمة” في العراق لا تمت بصلة لهذا المفهوم، لا من حيث الأداء ولا من حيث القيم والمعايير الأخلاقية.
وقال سلمان في حديث مع "طريق الشعب"، انه "حين نتحدث عن النخبة، فإننا نقصد شريحة تتمتع بكاريزما، ووعي، وثقافة، ونزاهة، وإخلاص للوطن والمجتمع، وتغلب المصلحة العامة على المصالح الشخصية. هذه هي المعايير التي تُميز النخبة الحقيقية، لا مجرد شخوص يتصدرون المشهد السياسي”.
وأضاف قائلاً انه “بكل وضوح، لا يوجد بين الطبقة السياسية الحاكمة اليوم من تنطبق عليه تلك المواصفات. ليس فيهم من هو نزيه أو أمين، ولا من يمثل بيئته بصدق، بل الأغلبية تدين بالولاء لجهات خارجية أو مصالح ضيّقة، ويحرصون على اقتسام الموارد والمناصب لا خدمة المواطن”.
وأشار إلى أن "وضع العراق في ذيل تصنيف الدول من حيث النخبة السياسية ومدى اسهاماتها بتقديم المنافع للناس مقابل مكاسبها الشخصية، كان دقيقاً وصادقاً، قياساً بالواقع".
ونوه الى ان "المجتمع العراقي فيه نخب فكرية وأكاديمية راقية تضاهي نظراءها في العالم، لكن لم تُمنح الفرصة للمشاركة في قيادة الدولة، لأنها ببساطة لا تنسجم مع منظومة الفساد والمحاصصة”.
وتابع قائلاً ان "الشواهد كثيرة، لشخصيات وطنية، حين أُتيحت لها الفرصة، رفضت أن تكون جزءاً من هذا الخراب، وتخلت عن مناصبها، وفضلت الغربة على البقاء في مشهد سياسي لا يؤمن بقيم الدولة والديمقراطية او بقوا في الداخل، ويعيشون حياة بسيطة جداً”.
وشدد على أن "التغيير مرهون بوعي الشعب، وآمل أن يدرك المواطن حجم مسؤوليته في الاختيار، فالتغيير يبدأ من صناديق الاقتراع، لا بانتظار معجزة. يجب أن يُقصى الفاسدون، وأن تُعطى الفرصة لنخب وطنية حقيقية تحمل مشروعًا للإصلاح”.
وخلص الى القول: ان “من المخجل أن نطلق على الفاسدين صفة سياسيين أو نخبة، فهم بعيدون كل البعد عن هذه الأوصاف. النخبة لا تشتري صوت المواطن بمدفأة وطعام، ولا تحتقر وعيه بالمهرجانات الفارغة. النخبة تُقدم مشروعاً، والمواطن هو من يحكم عليه. أما ما نراه اليوم، فهو تهريج سياسي، لا علاقة له بالنخبة أو بالقيادة”.
"زمرة متسلطة"
اما المحلل السياسي مناف الموسوي فقد قال إن الأزمة بين الطبقة السياسية والمواطن لم تعد بحاجة إلى تقارير دولية لتشخيصها، فالمشهد واضح: هناك أزمة ثقة حقيقية ومتجذرة.
وأضاف الموسوي في حديث مع "طريق الشعب"، أن أبرز مؤشرات هذه الأزمة "تمثلت في انتفاضة تشرين الشعبية، وكذلك في العزوف الواسع لأغلبية المواطنين عن الانتخابات النيابية السابقة، خاصة ما يُعرف بـ”الأغلبية الصامتة”"،
وأرجع أسباب هذه الأزمة إلى "سوء الإدارة، وعدم وفاء القوى السياسية بوعودها خلال الحملات الانتخابية، فضلًا عن سلوكها القائم على تهميش المواطن بعد الانتهاء من التصويت".
وأشار إلى أن القوى السياسية "تتعامل مع المواطن كأداة انتخابية مؤقتة، لا كجزء فاعل في العملية السياسية، وهو ما أدى إلى تصاعد حجم الاحتقان الاجتماعي من هذه الطبقة السياسية".
ونوه الى "اننا أمام مشهد طبقي مقلق، إذ نرى طبقة ثرية مفرطة في الامتيازات، مقابل طبقة مسحوقة تعاني من الفقر والعوز، فيما اختفت الطبقة الوسطى التي كانت تمثل العمود الفقري للمجتمع، وعلى رأسها فئة الموظفين”.
وتابع أن "ما نشهده من نتائج كارثية يعود إلى تغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية، واستغلال موارد الدولة لخدمة المشاريع الحزبية والفئوية، وهو ما تلتقطه أيضاً التقارير الدولية كمؤشرات على فشل القوى الحاكمة في تحقيق منافع عامة للمجتمع".
وزاد بالقول: ان “انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة يعطي انطباعاً سلبياً على المستوى الدولي بشأن سلامة المسار الديمقراطي في العراق، ويعكس حجم الاستغلال الواضح لمؤسسات الدولة من قبل الكتل السياسية، وهو ما قد يُضعف او يثلم الاعتراف الدولي بشرعية هذه القوى”.
واتم حديثه متسائلاً: “بعد أكثر من 22 عامًا على تغيير النظام، هل من المنطقي أن نطلق على الطبقة السياسية الحالية وصف (النخبة الحاكمة)؟، فمفهوم النخبة يعني التميز والتفوق في الأداء، لا السيطرة والتسلط، لكن الأدق هو أن نقول إننا أمام زمرة حاكمة، لا نخبة. زمرة أبعد ما تكون عن روح المسؤولية، وأقرب إلى الاستحواذ على الدولة”.
استهدف الاحتلال الصهيوني، المنشئات المدنية والعسكرية والنووية الإيرانية في ضربات جوية عديدة، وادى هذا الاعتداء المدان الى أضرار مادية وبشرية كبيرة في مناطق عدة، فيما ردّت طهران بتوجيه مئات الصواريخ والطائرات المسيرة، طيلة ليلة الجمعة – السبت، والتي حققت العديد منها أهدافها.
وتستمر المناوشات بين الجانبين، حتى لحظة اعداد هذا التقرير، في ظل دعوات دولية وعربية الى ضرورة التهدئة وضبط النفس والعودة الى طاولة الحوار بشأن الملف النووي الايراني.
العراق يدين ويشتكي
ودانت الحكومة العراقية الاعتداء العسكري، وعدّته انتهاكاً صارخاً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي، ولميثاق الأمم المتحدة، وتهديدا للأمن والسلام الدوليين، خصوصا انه حصل في اثناء فترة المفاوضات الامريكية ـ الايرانية.
وطالبت الحكومة المجتمع الدولي بـ"عدم التفرج، واتخاذ موقف رادع وعملي".
وشددت في بيان على لسان المتحدث الرسمي باسم الحكومة، على أهمية الشروع في حوار جاد لإيجاد اطر بديلة، تتضمن المساءلة، وتفرض العدالة، وتحمي السلم العالمي في حال عجز الآليات القائمة.
وفي السياق، قدمت وزارة الخارجية شكوى الى مجلس الأمن الدولي ضد الاحتلال الصهيوني الذي انتهك الأجواء العراقية، خلال تنفيذه الاعتداء العسكري على الجارة ايران.
ادانة السيستاني والصدر
كما دان المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني هذا العدوان، ودعا المجتمع الدولي إلى الضغط على هذا الكيان المعتدي وعلى داعميه، لمنع تكرار مثل هذه الاعتداءات.
فيما حذّر زعيم التيار الوطني الشيعي مقتدى الصدر من توسع الحرب، مؤكداً رفضه استخدام الأجواء العراقية في العدوان على إيران. كما شدد على أهمية إبعاد العراق عن الحرب، ومحاسبة الكيان الصهيوني عبر الطرق المعمول بها دولياً، ودعا العراقيين الى الإصغاء لصوت الحكمة.
مجلس الأمن يدعو للحل السلمي
من جانبه، حذر مجلس الامن الدولي خلال جلسة طارئة عقدت بدعوة من ايران، من العواقب الوخيمة التي ستحصل في حال استمرار التصعيد. واعتبر المجلس ان افضل وسيلة لضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني تكون "عبر المفاوضات والحل السلمي".
ودعا الى تجنب اندلاع أي تصعيد متزايد في منطقة الشرق الأوسط بأي ثمن.
وأعربت روزماري ديكارلو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، عن "إدانة أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة لأي تصعيد عسكري في الشرق الأوسط، مؤكدة التزام الدول الأعضاء بعدم استخدام القوة ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي، وفقا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
الصين وروسيا
من جهتها، أعربت الصين عن قلقها البالغ إزاء العواقب الوخيمة بعد الضربات الإسرائيلية على إيران، مؤكدة معارضتها أي انتهاك للسيادة الإيرانية.
ودعت الخارجية الصينية الأطراف المعنية إلى التصرف بطرق تخدم السلام والاستقرار الإقليميين، مشيرة إلى استعدادها للعب دور بناء في تهدئة الوضع.
فيما دانت موسكو في بيان صدر عن الوزارة الخارجية "بشدة الإجراءات ضد إيران"، مشيرة إلى أنها "تنتهك بشدة ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي". وقالت إن "الضربات الإسرائيلية في إيران غير مقبولة وغير مبررة".
هذا وصدرت مواقف عربية ودولية عديدة، دانت العدوان، ودعت الى تجنب التصعيد ومحاسبة إسرائيل على تصرفات حكومتها المتطرفة.
التيار الديمقراطي العراقي
واستنكر التيار الديمقراطي العراقي في بيان تلقته "طريق الشعب"، الهجوم، الذي اعتبره "تصعيدًا خطيرًا يُهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي، ويعرض شعوب المنطقة لمزيد من المخاطر والمعاناة".
ودعا البيان، الحكومة العراقية إلى اتخاذ موقف واضح يدعو إلى التهدئة، والعمل على تجنيب المنطقة مزيدًا من التصعيد، عبر التنسيق مع الأشقاء في الدول العربية والإسلامية، بما يُسهم في حماية استقرار المنطقة، والحفاظ على مصالح شعوبها، وتعزيز فرص السلام والتنمية.
الأحزاب الشيوعية تشجب
ودان عدد من الأحزاب الشيوعية في المنطقة، الاعتداء الصهيوني على إيران، وشددت على ضرورة تجنب المنطقة أي مسعى للحرب ومحاسبة حكومة الاحتلال الصهيوني المتطرفة.
ودان حزب توده الإيراني الهجوم بشدة، قائلا في بيان، ان "التصعيد من الطرفين لن يسفر سوى عن عواقب وخيمة"، وأكد "التزامه بحماية المصالح الوطنية الإيرانية".
ورفض الحزب "أي تدخل عسكري أو عدوان أجنبي ضد إرادة الشعب الإيراني ورغباته وحقوقه"، منبها الى انه "لا يستفيد من التوتر والحرب إلا الإمبريالية والقوى الرجعية التابعة والاستبداد الحاكم".
كما دعا البيان، القوى التقدمية في إيران والعالم إلى إدانة هذا الانتهاك، ومنع الصراع العسكري واسع النطاق والمدمر وإحلال السلام في الشرق الأوسط.
ودان الحزب الشيوعي اللبناني هذا الاعتداء، مؤكداً "حق كل الدول والشعوب في تطوير تقنياتها العلمية والتكنولوجية بما فيها النووية للأغراض السلمية الهادفة لتوليد الطاقة".
ومثله، استنكر الحزب الشيوعي الأردني بأشد العبارات هذا العدوان، مشدداً على ان "مساعي إسرائيل الى الاحتفاظ بالتفوق العسكري وتكريس الاحتلال وتصفية حق الشعب الفلسطيني وحرمانه من حق العودة وتقرير المصير، وجر دول المنطقة العربية الى مستنقع التطبيع هو السبب الحقيقي للاعتداء على إيران ودول المنطقة".
وحذر الحزب، السلطة الأردنية من خطورة القواعد العسكرية الأجنبية وخصوصاً الأمريكية، مؤكداً على ضرورة تفكيكها وإلغاء الاتفاقيات الناظمة لوجودها.
كما أبدى حزب الشعب الفلسطيني استنكاره للعدوان واستمرار التصعيد الإمبريالي الصهيوني ضد دول وشعوب المنطقة. وأكد الحزب "ضرورة الوقف الفوري للحرب العدوانية والإبادة الجماعية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال عن أراضيه وتلبية حقوقه الوطنية وفق قرارات الأمم المتحدة".
فيما دعا الحزب الشيوعي الفرنسي في بيان، الحكومة الفرنسية إلى اتخاذ موقف حاسم لصالح وقف فوري لإطلاق النار، وتحقيق السلام في المنطقة، وفرض عقوبات على إسرائيل، من خلال تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.
وطالب الشيوعي الفرنسي بـ"وقف جميع شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية. كما يجب التوصل إلى حل تفاوضي بشأن الملف النووي الإيراني، استناداً إلى المفاوضات التي جرت خلال الأسابيع الماضية".
وأكد أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مؤكداً تضامنه مع القوى الديمقراطية والساعية للسلام.
أهمية الدور الدبلوماسي
من جانبه، قال الدكتور أثير الجاسور، أكاديمي وباحث في الشأن السياسي، ان "الكيان الصهيوني سعى الى إضعاف الخارج الإيراني، من خلال تضييق جغرافية حلفاء طهران بعد إنهاء قدرات حزب الله وحركة حماس ونهاية نظام بشار الأسد، وهذا ما يعني ضعف جغرافية الصد الإيرانية"، حسب وصفه.
وأضاف الجاسور في حديث لـ"طريق الشعب"، ان "الصهاينة لم يريدوا لإيران ان تجلس على طاولة المفاوضات وبالتالي هي تضغط على الولايات المتحدة لتكون طرفاً أساسياً في هذه الحرب"، وبالتالي كان ذلك احد ابرز أسباب هذا الاعتداء.
وأضاف الجاسور، وهو أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة المستنصرية، ان "تبعات هذا التصعيد ستجر المنطقة الى تحالفات وتصنيفات رسمية وغير رسمية جديدة، ومنها إمكانية إعادة الاستقطابات الإقليمية والدولية بقيادة روسيا والصين مما سيعزز من نفوذهما في الشرق الأوسط، فضلا عن بداية لمحاور جديدة بقيادة إيران مختلفة عن محاورها السابقة".
وحذر الجاسور من جرّ المنطقة إلى حرب مفتوحة، داعيا الحكومة العراقية الى العمل ضمن الدوائر الدبلوماسية والابتعاد على ان تكون ضمن معادلة الحرب الحالية.
وأردف كلامه بان الواقع يؤكد ان العراق "عنصر في الحرب بسبب جغرافيته، كذلك إمكانية ان تتحرك الفصائل الموالية الى إيران وكذلك التعاطف الجماهيري ضد الكيان الإسرائيلي، لذلك ان مبدأ ان يكون العراق ضمن مستوى متقدم في الحرب وارد جداً".
وشدد على أهمية الدور الدبلوماسي، الذي اعتبره "المسار الوحيد الذي يجب أن يلعبه العراق لتجنب خطر الحرب وتداعياتها".
العراق المتضرر الأكبر
ومن جانب آخر، حذّر الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني من التداعيات الخطرة لأي تصعيد عسكري بين الدول في منطقة الخليج، مشيرا إلى أن "العراق سيكون من بين أكثر المتضررين اقتصاديًا، نظرًا لاعتماده شبه الكلي على صادرات النفط".
وقال المشهداني لـ"طريق الشعب"، إن "أي حرب في المنطقة ستترك آثارًا سلبية كبيرة على اقتصادات الدول المجاورة، لا سيما في ظل الترابط القوي مع الاقتصاد العالمي، إضافة إلى كون الخليج يُعد من أهم مناطق إنتاج وتصدير النفط عالميًا، حيث تبلغ صادراته نحو 17 مليون برميل يوميًا من أصل 45 مليون برميل تُطرح في السوق العالمية".
وأضاف أن "احتمال تطور الصراع إلى حد إغلاق مضيقي هرمز وباب المندب، سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط قد يصل إلى 200 دولار للبرميل، وهو ما سينعكس سلبًا على الاقتصاد العالمي"، مؤكدًا أن "دول الخليج – ومن بينها العراق – لن تستفيد من هذا الارتفاع، كونها ستكون غير قادرة على التصدير في حال إغلاق الممرات البحرية".
ونبه إلى أنّ "توقف التصدير يعني انقطاع الشريان الرئيس لتمويل الرواتب والإنفاق الحكومي"، مشيرا إلى أن "تطور الصراع قد يطال البنية التحتية في إيران، الأمر الذي يؤثر على الاقتصاد العراقي، باعتبار أن العراق يستورد من إيران ما قيمته 10 إلى 12 مليار دولار سنويا من الغاز والمشتقات النفطية والمواد الغذائية".
كما حذّر من مخاطر بيئية واجتماعية محتملة جراء استمرار التصعيد، قائلًا: ان "الحروب لا تترك فقط آثارًا اقتصادية، بل بيئية أيضًا، منها التلوث الناتج عن الحرائق واحتمالية تضرر منشآت نووية، وهو ما قد يصيب بعض المحافظات العراقية القريبة من الحدود".
إفشال مفاوضات طهران وواشنطن
أما الخبير الأمني كاظم الجحيشي، فقد أكد ان إسرائيل سترفع سقف التصعيد العسكري ضد إيران إلى مستوى "الحرب المفتوحة، بعد أن تجاوزت المواجهة بين الطرفين نطاق الضربات المحدودة أو العمليات النوعية.
وقال الجحيشي إن هذه الحرب "تهدف بالدرجة الأساس إلى إفشال المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، وإجبار إيران على تقديم تنازلات عبر الضغط العسكري".
وأضاف أن "المعطيات الميدانية، بما في ذلك عمليات اغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين إيرانيين، تشير إلى أن إسرائيل تخوض صراعاً طويل الأمد، وقد حدّدت مسبقاً ما لا يقل عن 150 هدفاً بين منشآت ثابتة ومتحركة وشخصيات مستهدفة".
وقال وزير خارجية إيران عباس عراقجي في تصريحات صحفية، إن استمرار المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا "غير مبرر في ظل وحشية إسرائيل".
وأضاف أنه "طالما تتواصل اعتداءات إسرائيل فلا معنى لحوار مع طرف يعد أكبر داعم للمعتدي ومتواطئ معه"، موضحاً أن "واشنطن ساندت الكيان الصهيوني في عدوانه بما فيه استهداف منشآتنا النووية السلمية".
واستدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفيرة السويسرية في طهران، نادين لوزانو، التي تمثل مكتب رعاية المصالح الأمريكية، وذلك للاحتجاج على الهجمات الأخيرة المنسوبة إلى إسرائيل.
وطبقا للجحيشي فإن "فشل المفاوضات قد يُعد تهديداً استراتيجياً لمصالح الولايات المتحدة، ويوفر غطاءً سياسياً وعسكرياً للمشاركة في الحرب".
برغم تكرار مشاهد الحرائق في العراق وتزايدها المقلق، لا تزال المعالجات دون المستوى المطلوب، وسط غياب إجراءات رادعة وحلول جذرية.
وتسجل سنويا آلاف الحوادث، التي تحصد الأرواح وتتسبب بخسائر فادحة في الممتلكات، بينما تظل الأسباب نفسها تتكرر: تماس كهربائي، مواد بناء سريعة الاشتعال، تخزين عشوائي، وإهمال واضح لإجراءات السلامة.
كان آخر حريق قد اندلع يوم الثلاثاء، عندما التهمت النيران العديد من المواقع في جبال دلوجه الواقعة ضمن قضاء قرداغ بمحافظة السليمانية، وذلك بعد أيام من اندلاع حريق داخل مدينة ألعاب في قضاء المقدادية شمال شرقي محافظة ديالى. وقبل عطلة العيد، تم إخماد حريق اندلع في مخزن للسيراميك بمنطقة العامرية في بغداد. ووفقاً لبيان مديرية الدفاع المدني، فإن الحريق "اندلع داخل أربعة مخازن وأربعة محال تجارية مشيّدة من ألواح السندويج بنل وألواح الجينكو، المخالفة لتعليمات السلامة ومتطلبات الدفاع المدني".
ما يجري لم يعد مجرد حوادث فردية معزولة، بل بات انعكاساً مباشراً لأزمة أعمق، تتصل بغياب ثقافة الوقاية، وضعف التشريعات، وتهالك البنى التحتية في المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء.
ويحذر مختصون من أن استمرار تجاهل هذه المنظومة يؤدي إلى مزيد من الكوارث، ما لم يُعَد النظر بجدية في أساليب التخطيط والرقابة وتطبيق القوانين.
التجاوزات والاهمال
وتتصاعد ألسنة لهب في زوايا مهملة من مؤسسات يُفترض أنها تحمي الأرواح. لكن الواقع، كما يصفه حيدر نوري من الهلال الأحمر، مختلف تماما: واقع يسكنه الإهمال والتجاوزات التي تحولت إلى وقود جاهز لأي كارثة قادمة".
يقول نوري لـ"طريق الشعب"، إن "الحرائق داخل مؤسساتنا الحكومية، خصوصا الصحية، لم تعد حوادث معزولة. إنها تراكمات مستمرة من سوء التخزين، ورداءة البناء، وانعدام الرقابة".
ويشير نوري إلى أن "أغراضا تالفة ومستعملة تُخزن بشكل عشوائي، في أماكن لا تصلح لهذا الغرض، دون أن تُزال أو تُفرز بشكل آمن. هذه المواد بعضها قابل للاشتعال تبقى مهملة وسط أنظمة لا تتحرك إلا بعد الكارثة".
ويضيف نوري بأسى: "الكرفانات المبنية من مواد غير مقاومة للنار مثل (الساندويتش بانل) ما زالت موجودة، رغم التحذيرات. هذه المواد قد تتحول إلى محرقة في لحظة واحدة فقط"، لافتا الى أن إجراءات السلامة شكلية فقط، غالبا ما تكون مجرد "حبر على ورق". النفايات الطبية الخطرة لا تُعالج أو تُتلف كما يجب. بعض المستشفيات تتبع معايير بسيطة، لكن أخرى تفتقر لأبسط أسس الحماية.
ويرى أن دور الدفاع المدني يجب أن يكون أكثر من مجرد رد فعل: "من المفترض أن يكون داخل المؤسسات الحكومية والخاص قسم دفاع مدني يراقب الأبنية، التخزين، ويشرف على مطابقة البناء لمواصفات السلامة. مثل ما موجود بباقي الوزارات. لكن للأسف، لا أحد يتابع فعليا، والإهمال واضح".
الأخطر من كل ذلك كما يقول هو أن "مخارج الطوارئ مجرد ديكور"، ويضيف: "نادراً ما أجد سلم طوارئ فعال. حتى لو كان موجودا، اما مغلق بقفل، او يحول لمخزن، او ضائع مفتاحه وهذه ليست سلالم نجاة، هذه مصائد موت".
ضعف قانوني يمنع الردع
فيما يقول مشرق عبد الخالق، مدير عام المركز الوطني للصحة والسلامة المهنية في وزارة العمل، إن المركز يعمل على تنفيذ واحدة من أبرز مهامه، وهي تقييم بيئة العمل في مختلف مؤسسات الدولة، لا سيما في القطاع العام، عبر زيارات ميدانية تفتيشية دورية.
ويوضح عبد الخالق لـ "طريق الشعب"، أن فرق التفتيش التابعة للمركز تقوم برصد وتوثيق كافة المخالفات والملاحظات في مواقع العمل، وتشمل هذه المخالفات: التلوث، المخاطر التي قد تؤدي إلى إصابات، أو الحوادث الناتجة عن الإهمال، مثل عدم الالتزام باستخدام السلالم الآمنة أو تدابير الوقاية الأخرى. وتُرفع التقارير التفتيشية بعد الزيارات إلى الدوائر المعنية، بهدف معالجة المخالفات وتصحيح الوضع القائم.
ويواصل عبد الخالق القول أن "المركز، وبعد مضي 6 أشهر على إصدار التقرير، يعاود إرسال فريق تفتيشي آخر لمتابعة مدى التزام الدائرة بإزالة المخالفات المسجلة". لكن برغم الجهود، فأن المركز يفتقر إلى سلطة قانونية مباشرة تُلزم الدوائر المعنية بتنفيذ التوصيات، وذلك في ظل غياب قانون خاص بالصحة والسلامة المهنية في العراق. إلا أن المركز، بحسب عبد الخالق، يحمل نفسه مسؤولية إبلاغ الجهات المختصة وتوثيق المخالفات، مؤكدًا أن "المسؤولية القانونية تقع بعد ذلك على عاتق الدائرة المعنية في حال وقوع أي ضرر أو إصابة في مواقع العمل".
أبنية خارج المتابعة والرقابة الحكومية!
بدوره، قال مختص في شؤون السلامة العامة أسعد عبد سلام، إن العراق يشهد سنويا ارتفاعا مقلقا في معدلات الحرائق، والسبب الأبرز لذلك هو عدم التزام المواطنين وأصحاب المحال التجارية والمخازن والمجمعات بإجراءات السلامة الأساسية، مشيرا إلى أن ما يحدث "ليس مجرد إهمال فردي، بل نتيجة تراكمات في التخطيط والرقابة والوعي".
وأضاف عبد سلام لـ "طريق الشعب"، أن "من أبرز مظاهر هذا الخلل هو غياب وسائل الإطفاء البسيطة مثل طفايات الحريق في معظم المحال والمخازن، فضلا عن انعدام أنظمة الإنذار المبكر في الأبنية التجارية والصناعية، مما يجعل الحريق يبدأ ويتفاقم دون أن يلاحظه أحد أو يتم التعامل معه في الوقت المناسب".
وأوضح أن المشكلة أعمق من مجرد غياب الأدوات، إذ تعود في جذورها إلى ضعف ثقافة الوقاية المجتمعية، وانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه السلامة العامة. وقال: "الناس لا يدركون أن تجاهل وسيلة إنذار أو عدم وضع مطفأة قد يكلّف حياة إنسان. هناك قناعة سائدة بأن الحريق قدر، وليس شيئا يمكن منعه أو الاستعداد له".
وأشار الباحث إلى أن استخدام مواد بناء شديدة الاشتعال مثل ألواح الساندويج بنل، والتي تستخدم بكثرة رغم خطورتها، يفاقم من الكوارث، مؤكدا أن هذه المواد "تعمل كوقود سريع الاشتعال بمجرد اندلاع الشرارة الأولى".
كما ألقى عبد سلام باللوم على الجهات الرسمية، قائلاً إن هناك فجوة واضحة في المتابعة والرقابة، فالكثير من الأبنية التجارية لا تمتلك مخططات هندسية ولا تسجل لدى الجهات الحكومية، ما يجعل من الصعب مراقبتها أو مساءلتها. وأضاف: "لدينا آلاف المحال والمخازن التي نشأت بشكل عشوائي دون إشراف هندسي أو دفاع مدني، ومع غياب قاعدة بيانات واضحة، تصبح المتابعة شبه مستحيلة".
ويرى عبد سلام أن أحد الأسباب الجوهرية لضعف الالتزام هو غياب الردع القانوني، فحتى في حال وجود مخالفات، نادرا ما تطبق العقوبات أو تُغلق الأبنية المخالفة.
وقال: "إنْ لم يكن هناك ثمن لعدم الالتزام، فلن يلتزم أحد. الناس تتصرف بحسب الواقع، والواقع اليوم يقول إن السلامة اختيارية، وليست واجب".
كما انتقد البنية التحتية للإنذار المبكر، موضحا أن أنظمة الإنذار المتقدمة التي ترتبط مباشرة بمراكز الدفاع المدني نادرة الاستخدام في العراق، وغالبا ما تعتمد الأبنية على مجسات بسيطة غير فعالة أو لا تمتلك أي أنظمة إنذار على الإطلاق.
وتابع ان "الحرائق ليست أقدارا إلهية، بل نتائج حتمية لسلسلة من الإهمال وسوء الفهم وغياب التخطيط. إن لم نبدأ بإصلاح جذري في ثقافة السلامة، وتفعيل القوانين، وتوفير البنى التحتية، فإن أعداد الضحايا ستستمر في الارتفاع، عاما بعد عام"، وأضاف ان "خلال عام 2024 سجل العراق أكثر من 8500 حادث حريق".
أسباب الحرائق متعددة
من جانبه، بين مدير إعلام الدفاع المدني، نؤاس صباح، أن ارتفاع درجات الحرارة في البلاد تسبب بزيادة ملحوظة في حوادث الحرائق، مشيراً إلى أن فرق الدفاع المدني تمكنت خلال الساعات الماضية من السيطرة على عدد من الحوادث دون تسجيل أي إصابات بشرية، مع تقليل الأضرار المادية إلى أدنى حد ممكن.
وأوضح صباح في حديث أن "أسباب الحرائق تتنوع ما بين تيبس الحشائش والأعشاب في المناطق المفتوحة، واحتراق النفايات في المقالع، بالإضافة إلى تزايد الضغط على منظومة الطاقة الكهربائية في المناطق السكنية"، لافتاً إلى أن "تذبذب التيار الكهربائي وتداخل الأحمال بين المولدات والشبكة الوطنية يشكل عاملاً رئيسياً في اندلاع الحرائق".
وأشار إلى أن "الدفاع المدني يعمل وفق قانون رقم 44 لسنة 2013، الذي ينص على إجراء كشف نصف سنوي في مختلف القطاعات العامة والخاصة لمتابعة تطبيق إجراءات السلامة". وأضاف أن "الجهات غير الملتزمة تُحال إلى جلسة فصل إدارية تشبه المحكمة المصغرة، ويجري خلالها فرض غرامات مالية تتراوح بين 250 ألفاً إلى مليون دينار".
وكشف صباح عن مساعٍ جارية لتعديل القانون، قائلاً: "نعمل حالياً على تعديل التشريعات بحيث تشمل العقوبة المشروع المخالف نفسه وليس فقط صاحب المشروع، وقد تصل العقوبة إلى إغلاق المشروع بالكامل حتى يتم استيفاء شروط السلامة".