ما إن يعود صوت المحتجين يرتفع وتتوحّد شعاراتهم المطالِبة بالخلاص من منظومة المحاصصة وذيولها، حتى يظهر عجز القوى السياسية الحاكمة عن مواجهة تلك المطالب، فتلجأ إلى أساليب التسويف والمماطلة والى محاولات التشتيت، بدلاً من الاستجابة.
وما ان تخفت حركة الاحتجاج أو يغيب صوتها، حتى تبدأ ما يمكن تسميتها "حفلة شتائم"، يعيد بعض المسؤولين في مجراها ترديد الاتهام التقليدي الهزيل والمتهافت، بأن الانتفاضة "صنيعة للخارج" ومدعومة من سفارات أجنبية.
والسؤال الجوهري هنا هو: إذا كانت هناك تدخلات خارجية بالفعل، فلماذا لم تقم هذه القوى بدورها في تحصين الدولة والمجتمع من تأثيراتها؟ وهل يمكن للطبقة السياسية، وهي الأكثر ارتباطاً بالخارج، أن تتبرأ من تلك التأثيرات؟
ثم تبرز أسئلة أخرى أكثر إلحاحاً: ماذا قدّم المسؤولون لشعبهم الرافض لسلطتهم؟ هل جلبوا له غير الفقر والحرمان ونهب الثروات؟ ولماذا لا يجد المطالبون بحقوقهم ردودا غير العنف والقتل والتغييب والترهيب، كما جرى للمحتجين مؤخراً في ساحة التحرير؟
ستبقى دوافع الاحتجاج قائمة ما بقي الفساد والمحاصصة.
أما محاولات التسخيف أو التشويه فلن تُجدي نفعاً، ذلك أن المطالب الحقيقية لا تسقط بالتجاهل ولا بالتزوير.
صوّت مجلس النواب الاربعاء الفائت، بطريقة مسرحية هزيلة، على "مدونة الاحوال الجعفرية" ضمن تعديل قانون الاحوال الشخصية، حالما تسلمها من المجلس العلمي التابع الى الوقف الشيعي، ومن دون ان تمرر على اعضائه ليطلعوا عليها، مثلما جرت اضافتها الى جدول الاعمال دون اشعار مسبق!
وبعد ذلك بساعات جرى تسريب المدونة المكونة من 55 صفحة الى وسائل الاعلام، وعليها ختم خاص "الكتروني" لأحد النواب. فهل يعني هذا انه هو من تحكم بمجريات التصويت؟ وهل بات مجلس النواب رهين صراعات المتنفذين، الذين يمررون القوانين والقرارات رغم رأي الآخرين؟
والسؤال المهم: كم كان المصوتون على القانون، وعدد الحاضرين في الجلسة، واين هم النواب الذين اعترضوا على تعديل القانون؟
وثمة اليوم خلاف كبير حول طريقة تعديل القانون، والغاية منه، وصولا الى طريقة التصويت على المدونة، التي بات الرأي العام أيضا منقسماً بشأنها، وبخصوص ما تتضمنه المدونة من غبن وضرر كبيرين لحقوق المرأة في حياة حرة كريمة، بما نص عليه الدستور والاتفاقيات الدولية.
وكل هذا يؤكد مجددا الحاجة الماسة الى ازاحة منظومة المحاصصة الفاسدة، واعادة الامور الى نصابها، وان يكون مجلس النواب حقا المؤسسة الدستورية التي ترعى شؤون المواطنين وتحرص على احترام حقوقهم.
تبقى منافذ حدودنا عنواناً عريضاً للفوضى والفساد، رغم كل ما أعلنته الحكومة عن إصلاحات وهيكلة وتدابير رقابية. وقد أشّر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني نفسه وجود جهات داخلية وخارجية، لا يروق لها تنظيم هذه المنافذ، ما يعكس حقيقة أن المشكلة أعمق من مجرد إدارية أو تقنية.
ورغم إدخال أنظمة متطورة مثل "الاسيكودا" والحوكمة الإلكترونية، إلا أن الإيرادات لم ترتفع كما كان مأمولاً. فالمنافذ غير الرسمية تعمل بلا ضوابط، فتُفرغ أي إصلاح من محتواه.
الأرقام الرسمية صادمة: نحو 80 بالمائة من السجائر والمعسل والكحول والذهب تدخل البلاد مهرّبةً، مقابل 20بالمائة فقط عبر المنافذ الرسمية. والأخطر أن التهريب لا يقتصر على الكماليات، بل يشمل السلع ذات الكمارك العالية، التي تبقى أسعارها في السوق منخفضة بفضل دخولها عبر “الأبواب الخلفية”.
الأخطر من كل ذلك أن شبكات التهريب ليست مجرد عصابات صغيرة، بل تقف خلفها جهات نافذة داخل الدولة، وشركاء تجاريون مستفيدون من استمرار الوضع. ولهذا فإن أي إصلاحات إدارية أو تقنية تبدو أقرب إلى "الترقيع" منها إلى المعالجة.
والخلاصة هي انه لا إصلاح فعلياً من دون إغلاق المنافذ غير الرسمية، وإنهاء ما يُعرف بـ"الطرق النيسمية"، التي تحولت إلى شرايين مفتوحة لتهريب البضائع ولإفراغ خزينة الدولة من مواردها.
منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت سيارات النقل العام تنطلق من محل الحاج مريدي الفرطوسي، إلى كل مناطق العاصمة بغداد. ومع مرور السنوات وتعاقب السلطات على حكم البلاد، أخذت الحركة التجارية تتسع في محيط ذلك المحل، لتشكل ملجأً وحيداً لفقراء قلب العراق، الذين تتزايد أعدادهم بفضل سياسات السلطات المتعاقبة، منذ مرحلة ما بعد عبد الكريم قاسم، وحتى الآن، فأصبحت مساحته تزيد على أكثر من ثلاثة كيلومترات مربعة.
ظل سوق مريدي، لاكثر من ستة عقود، متصالحا مع حاجات الفقراء، الذين يقصدون من جميع مناطق بغداد. لم يطرد يوما فقيرا؛ لم يرفض تلبية حاجة فقير لجهاز مستعمل، لملابس مستعملة، لعمل، لسلع يطلبها مجانا. وفي مقابل كرم "مريدي" كانت السلطات تزيد وتوغل في اضطهاد الناس وسرقة ثرواتهم وقوت عيشهم، وحياتهم.
"مريدي" عالم مكتظ بالفوضى الشعبية، وهي نظامه الوحيد: خليط من الأصوات والروائح والألوان؛ نداءات الباعة تتداخل مع صخب الزحام، وأكوام الكتب المستعملة تغط الشارع والرصيف، مع التحف القديمة والملابس الرخيصة والسلع الغريبة. كل هذا الأغراض تصرخ: طوبى للفقراء، أجيالا بعد أجيال.
سوق مريدي، الذي يشكل ذاكرة مفتوحة لبغداد الشعبية، ويعكس وجها لمدينة واجهت قهر ماضيها، يستسلم اليوم بسهولة لـ"شفل الحكومة" التي تريد سحب أوكسجين جيوب الفقراء، وتمحو ذاكرتهم، وتعدم مصدر زرق آلاف العوائل. نريد لهذا "الوحش الاصفر" أن يكتسح تجاوزات المسؤولين، الأحزاب التي ابتلعت عقارات الدولة وممتلكاتها، وليس مكافحة هذا السوق وفقرائه ومتبضعيه المسحوقين.
من أبرز إفرازات نظام المحاصصة والفساد في العراق هو احتكار المشاريع والخدمات لصالح فئات أو مناطق محددة، ليس لأنها الأكثر حاجة أو استحقاقاً، بل لأنها ارتبطت بوجود نائب أو متنفذ أو مسؤول يملك ثقلا شعبيا في تلك الرقعة الجغرافية. وهكذا تتحول الخدمات إلى أدوات دعائية، فتُرصف الطرق وتُعاد تهيئة الأرصفة مرة ومرتين وثلاثا، فقط لأن "الحظ" أوقع مسؤولاً متنفذاً في ذلك المكان.
المفارقة أن بعض المناطق المحرومة لا يفصلها عن تلك "المناطق المحظوظة" سوى أمتار معدودة، لكن آليات "الجهد الحكومي" ومؤسسات الدولة تتوقف أمام خطوط وهمية رسمتها تقاطعات السياسيين وصراعاتهم على النفوذ. وبذلك تخضع الخدمات، كما الثروات والمناصب، إلى منطق المحاصصة البائس، فتُدار البلاد بعقلية الغنيمة لا بعقلية الدولة.
إن من يمارسون هذه السياسات لا يسعون لبناء مؤسسات رصينة، ولا يعملون على خدمة الناس، بل يضعون مصالحهم ومصالح أحزابهم الضيّقة فوق كل اعتبار. إنهم يختطفون الدولة ومواردها، ويحوّلون أبسط حقوق المواطنين إلى مادة للابتزاز السياسي.
والحقيقة المرة: ما دام مشروع الدولة أسيراً في قبضة المحاصصة، فلن تُبنى الأرصفة للناس… بل ستُرصَف الطرق الموصلة إلى مناصبهم!