تحل ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة، والعراقيون يستحضرون أحد أكثر اللحظات تأثيراً في تاريخهم المعاصر، عندما أطاح تحالف الجيش مع الشعب بالنظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية.
وشكلت الثورة منعطفاً حاسماً في حياة العراقيين، إذ أنهت عقوداً من الحكم الملكي الوراثي والارتباط بالسياسات البريطانية، وأطلقت موجة من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواسعة. وفي غضون سنوات قليلة، شهد العراق تحولات كبرى شملت توزيع الأراضي على الفلاحين، وتوسيع فرص التعليم، وتعزيز الهوية الوطنية المستقلة، والمواطنة العراقية الجامعة.
ما انفكت محاولات تغييب لحظة تموز برغم كل ما أنجزته الثورة من خطوات باتجاه العدالة الاجتماعية والاستقلال السياسي الكامل، ولم تُمنح المكانة الرسمية التي تليق بها، إذ غُيّبت قسرا عن قائمة الأعياد الوطنية الرسمية، في ظل منظومة حاكمة تتجنب الاعتراف بالمحطات الوطنية الجامعة، لحساب محطات فئوية أو طائفية لا تحظى بإجماع شعبي واتخاذ ذلك عنوانا لإدامة النفوذ والهيمنة.
وبينما تتسابق أطراف السلطة على طمس التاريخ أو القفز عليه، يصرّ مثقفون وسياسيون وأكاديميون على استحضار "لحظة تموز" بوصفها صرخة تحرّر، ومشروع دولة حُرمت من فرصتها في الاكتمال، لكنها ما تزال تلهم المتطلعين إلى غد أفضل بإمكانية التغيير.
تحول تاريخي حقيقي
في هذا الصدد، قال الكاتب والصحفي فلاح المشعل إن ثورة 14 تموز 1958 تمثل محطة تاريخية مجيدة ونقطة تحوّل حاسمة في تاريخ العراق الحديث، إذ أنها أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العراقية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، أول رئيس عراقي يتولى هذا المنصب في ظل دولة مستقلة ذات سيادة.
وأوضح المشعل في حديث مع "طريق الشعب"، أن عبد الكريم قاسم “كان ضابطاً معروفاً بانتمائه الوطني وروحه العراقية الخالصة”، مشيرًا إلى أن الثورة "جاءت نتيجة تراكم السخط الشعبي والوطني على النظام الملكي الذي كان واقعًا تحت الهيمنة البريطانية، ومتناقضًا مع تطلعات القوى الوطنية، سواء من اليساريين أو الشيوعيين أو القوميين".
وأضاف أن ثورة تموز "لم تكن انقلاباً عسكرياً، وانما جاءت بمشروع تحولي حقيقي تضمن مكتسبات اجتماعية واقتصادية وتعليمية، ورسّخت مفاهيم الدولة الحديثة والعدالة الاجتماعية، ما يجعلها جديرة بتوصيفها كثورة بكل معنى الكلمة".
وانتقد المشعل قرار الحكومة أو البرلمان الحالي بشطب ذكرى الثورة من قائمة الأعياد الوطنية، قائلاً: “أستغرب كيف تجرأت الحكومة أو البرلمان على إلغاء هذه الذكرى، وهي المناسبة الوطنية الأهم، العيد الوطني الحقيقي للعراقيين”.
ورأى أن هذا القرار قد يكون ناتجاً عن تأثير بعض “العقليات الرجعية” أو خصوم عبد الكريم قاسم، أو أولئك الذين يضمرون عداءً تاريخيًاً لليسار أو لمفهوم الجمهورية الحقيقية في العراق".
واختتم بالقول إن الثورة “أنقذت العراق من عهد بائد، وأسست لعهد جديد”، داعيًا إلى مراجعة هذا الموقف الرسمي والإقرار مجددًا بأهمية هذه المناسبة في الذاكرة الوطنية العراقية.
انطلاق نحو عراق عادل
من جهته، أكد المنسق العام للتيار الديمقراطي العراقي أثير الدباس، أن ثورة 14 تموز 1958 تمثل لحظة مفصلية في تاريخ العراق الحديث، وجسّدت إرادة شعب كافح ضد الاستبداد والتبعية، وسعى إلى إقامة دولة العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية.
وقال الدباس في حديث مع "طريق الشعب"، إن فجر الرابع عشر من تموز كان زئيرًا للحرية وقلب الطاولة على الاستعمار وأدواته، معلنًا نهاية حقبة الحكم الملكي وبداية مشروع وطني تحرري بقيادة رجال من طراز خاص".
وأضاف أن الثورة "رغم قصر عمرها السياسي، استطاعت خلال سنوات معدودة تحقيق تحولات كبرى، أبرزها إصدار قانون الإصلاح الزراعي، وإنهاء الإقطاع، وتوسيع التعليم المجاني، وبناء المستشفيات والمدارس، والشروع بقاعدة صناعية وطنية، إلى جانب الانسحاب من حلف بغداد وتبني سياسة عدم الانحياز".
وأشار الدباس إلى أن تموز "جمعت بين القرار الوطني المستقل، والإرادة الشعبية، والعدالة الاجتماعية، وهو ما رسّخ مكانتها في الذاكرة الجمعية للعراقيين رغم محاولات التشويه والإقصاء".
وفي تعليقه على الحاضر، قال إن الثورة اليوم “مطاردة في مناهج التعليم، مُقصاة من احتفالات الدولة”، في وقت “يتسلط فيه من لا يجيدون سوى إنتاج الأزمات وتقاسم الغنائم”، وتسيطر على الحكم منظومة تقوم على المحاصصة والفساد، محوّلة الدولة إلى “غنيمة للطائفة والحزب المتنفذ والعشيرة”.
واستذكر الدباس الفارق الجوهري بين من قاد الثورة، وبين من يحكم اليوم، قائلاً: “بينما كان قادة الثور ينامون دون حماية بين أبناء شعبهم، يعيش المسؤولون اليوم خلف جدران الكونكريت وقوافل الحمايات، وبينما قدّمت ثورة تموز مشاريع حقيقية للفقراء، تُقدّم لنا السلطة الحالية ميزانيات انفجارية تنتهي في جيوب الفاسدين”.
وشدّد على أن العراقيين اليوم بحاجة ماسة إلى قِيَم تموز، لا إلى استنساخها، بل إلى الجرأة في اتخاذ القرار الوطني، والنزاهة في إدارة الدولة، ومشروع وطني شامل يستعيد الدولة من قبضة الفساد والخراب.
واتم حديثه بالقول: “في زمن تتسابق فيه أحزاب السلطة على طمس الذاكرة، تبقى تموز صرخة في وجه النسيان، تقول إن التغيير ممكن، لا بل ضروري، إذا ما امتلكنا شجاعة رجال الثورة الأوائل وانحيازهم للشعب والعدالة”.
ثورة بلا عيد
الى ذلك، قال استاذ العلوم السياسية، د. عامر حسن فياض إن الاحتفاء بثورة الرابع عشر من تموز يجب أن يكون بهدف استذكار دروس النجاح، وتجاوز إخفاقات الماضي، لا للاعتياش على الذكرى أو اجترارها، بل لتحويلها إلى محفز للانتقال نحو مستقبل أفضل يليق بالعراق وشعبه.
ونوه في حديث لـ "طريق الشعب"، ان “العراق لا يستحق ماضيه القديم، ولا حاضره الحالي، بل يستحق مستقبلًا يتجاوز كليهما”، مشيرًا إلى أن "ثورة تموز 1958 كانت ثورة حقيقية بكل المقاييس، سواء من حيث الأسباب والدوافع أو النتائج، إذ جاءت لتُطيح بواقع سياسي لم يكن في صالح العراقيين، وخصوصًا الطبقات الفقيرة".
وأوضح أن الثورة "برغم طابعها الشعبي والتنظيم المحكم الذي قادتها به القوى الوطنية، لم تكن محل ترحيب لدى خصومها في الداخل والخارج، وهو ما ساهم لاحقًا في الالتفاف عليها وتقويض مسارها".
وانتقد فياض غياب الأعياد السياسية والوطنية عن قانون العطل الرسمية في العراق، قائلًا: “من الغريب أن العراق، بكل تاريخه وتضحياته، هو البلد الوحيد الذي لا يمتلك أعيادًا وطنية سياسية حقيقية. القانون الحالي يتضمن نحو 12 عطلة، 10 منها دينية واثنتان مهنية، دون أن تُخصص أي عطلة للمرأة أو للثورات والأحداث الوطنية”.
واختتم بالقول ان “من الطبيعي أن يكون للعراق عيد سياسي على غرار ما تحتفل به شعوب العالم، فهذه مناسبات تستحق أن تُخلّد رسمياً في ذاكرة الأمة”.
كشف تقرير صندوق النقد الدولي قبل أيام، عن استمرار تسجيل عجز كبير في الميزانية العراق غير النفطية، كما توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025. ولفت الصندوق أيضاً إلى ارتفاع مخاطر الديون السيادية للعراق مما يستدعي تدخلاً عاجلاً على مستوى السياسات. كما أشار إلى أنه يتعين على السلطات ضبط مستوى الدين على المدى المتوسط.
ولكي تتفادى بغداد العراقيل المالية، فهي بحاجة لإجراء إصلاحات جوهرية لزيادة الإيرادات غير النفطية، والسيطرة على فاتورة أجور القطاع العام، وتعزيز إمكانات النمو غير النفطي، من خلال وضع أجندة إصلاح هيكلي طموحة، بحسب التقرير.
اقتصاد يفقد قدرته على النمو
خبير الاقتصاد الدولي د. نوار السعدي، يرى ان ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي بشأن العراق يشكّل تحذيراً جدياً يجب أن يُقرأ بتمعّن لا باعتباره أرقاماً تقنية معزولة، بل كمرآة دقيقة لحالة اقتصادية مضطربة تتفاقم بصمت.
وقال السعدي لـ"طريق الشعب"، انه "حين نتحدث عن انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.3% خلال عام 2024، فنحن لا نصف حالة ركود عابرة، بل نتحدث عن اقتصاد يفقد قدرته على النمو الذاتي خارج إطار الإيرادات النفطية"، مبينا ان "المشكلة لم تعد مرتبطة فقط بتقلبات السوق العالمية أو الانكماش في الأسعار، بل أصبحت بنيوية، تتعلق بعجز حقيقي في هيكل الاقتصاد الوطني وفقدان الفعالية في التخطيط والإدارة".
فقدان الأدوات الدفاعية
وأوضح، ان "التقرير يشير إلى أن العراق يتجه من وضع الفائض في الحساب الجاري إلى وضع العجز، بالتزامن مع تقلص الاحتياطيات الأجنبية بوتيرة مقلقة. هذا المسار إن استمر، يعني أن العراق لن يكون معرضاً فقط لانكشاف مالي، بل لفقدان أدواته الدفاعية في حال حدوث أي صدمة خارجية، سواء كانت في أسعار النفط أو في الجغرافيا السياسية المحيطة. هنا لا بد من التوقف عند نقطة بالغة الخطورة، وهي أن الاحتياطي الأجنبي الذي كان يوصف دائماً بأنه صمّام أمان، سيبدأ بالتآكل تدريجياً من دون أي غطاء اقتصادي بديل، لأن الإيرادات لا يعاد تدويرها في الداخل لخلق نمو حقيقي أو فرص إنتاجية مستدامة".
ونوه الخبير الاقتصادي، الى ان "اللافت أن التقرير يشير إلى استقرار نسبي في معدل التضخم وسعر صرف الدينار، وهذه مؤشرات لا يجب النظر إليها كدليل على عافية اقتصادية، بل كاستقرار هش فوق أرضية غير متينة. فالتضخم المنخفض في العراق لا يعكس بالضرورة قوة في الاقتصاد، بل في كثير من الأحيان يعكس ركوداً في الطلب العام وغياب حركة حقيقية في السوق. أما استقرار سعر الصرف، فهو في الوقت الراهن ثمرة لتدخلات مكثفة من قبل البنك المركزي، وليس نتيجة توازن طبيعي بين العرض والطلب على العملة الصعبة".
استثمار أجنبي صفري!
وأشار السعدي، الى ان "ما يثير القلق أيضاً هو أن العراق سيصل إلى عام 2026 بمعدل استثمار أجنبي مباشر يساوي الصفر، وهو أمر يكشف عمق أزمة الثقة في البيئة الاقتصادية والقانونية للبلد"، مشيرا الى ان "البيئة الطاردة للاستثمار لا تتعلق فقط بالأمن، بل البيروقراطية والفساد وتضارب التشريعات، وهذا كله يضعف أي فرصة للنمو خارج قطاع النفط. وفي ظل ارتفاع عدد السكان إلى أكثر من 44 مليون نسمة، ومعدل فقر لا يزال يتجاوز 23% بحسب بيانات قديمة نسبياً، فإن غياب الاستثمارات والفرص الإنتاجية يعني اتساع دائرة الفقر والبطالة والتبعية للموازنة العامة".
وأنهى السعدي حديثه بالقول: ما أقرأه من هذا التقرير هو أن العراق يسير في مسار خطير من التراجع الهيكلي البطيء، حيث يتم استهلاك الفوائض دون أن يتم إنتاج مصادر جديدة للدخل، وتستمر الحكومة في اعتمادها الكلي على الريع النفطي، دون أي جهد جاد لإعادة هيكلة الإنفاق أو تنويع الإيرادات. وفي ظل هذا النهج، فإن كل حديث عن تنمية أو إصلاح سيبقى مجرد أمنيات، ما لم تقترن الإرادة السياسية بخطة اقتصادية شجاعة تبدأ من مراجعة كاملة لنموذج الدولة الريعية وتنتقل إلى مرحلة بناء اقتصاد إنتاجي قادر على الصمود والمنافسة".
مخلص التقرير
وفي اتصال مع الأكاديمي والخبير الاقتصادي، نبيل المرسومي، خص "طريق الشعب" بملخّص لتقرير صندوق النقد الدولي، يشخص جوانب الضعف في الاقتصاد العراقي، نورده كما وصل للجريدة:
أولا: يواجه العراق تهديداً بتفاقم العجز المالي على المدى المتوسط إثر تراجع إيرادات النفط بسبب انخفاض الأسعار فضلاً عن تزايد معوقات التمويل، في الوقت الذي ارتفع فيه تقدير سعر الخام اللازم لتحقيق التعادل في الميزانية ما يزيد عن 55%.
ثانيا: يتوقع أن تؤدي قيود التمويل وانخفاض إيرادات النفط الإنفاق المالي، الى التأثير سلبيا على النشاط الاقتصادي.
ثالثا: أدى التوسع المالي الكبير في السنوات الأخيرة إلى تزايد مواطن الضعف في البلاد، ما فاقمه الانخفاض الأحدث في أسعار النفط.
رابعا: يُنتظر أن تسجل المالية العامة للعراق تراجعاً ملحوظاً، إذ يُقدر العجز في الموازنة العامة بنحو 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، ليتسع إلى 7.5% في 2025، ثم 9.2% في 2026. يأتي ذلك في ظل انخفاض الإيرادات النفطية من 36% من الناتج في 2024 إلى 31% في 2026، مقابل ارتفاع في الإنفاق العام من 43.5% إلى 43.8% خلال الفترة ذاتها، لا سيما في بند الأجور والرواتب الذي سيصل إلى 24.5% من الناتج في عام 2026.
خامسا: رفع سعر النفط اللازم لتحقيق التوازن المالي في العراق إلى 84 دولاراً للبرميل في 2024 من 54 دولاراً في 2020، بسبب التوسع في الإنفاق وضعف الإيرادات غير النفطية.
سادسا: أشار التقرير إلى استمرار تسجيل عجز أولي كبير في الميزانية غير النفطية للعراق، والذي سيبلغ نحو 59.3% من الناتج المحلي غير النفطي في 2024، ويتراجع تدريجياً إلى 51.8% بحلول 2026. كما توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025.
سابعا: تباطأ نمو القطاع غير النفطي بالعراق إلى 2.5% في 2024 من 13.8% في 2023، وفق تقديرات صندوق النقد الصادرة اليوم، ويُتوقع أن يتفاقم التباطؤ إلى نمو عند 1% فحسب في العام الجاري، قبل أن يتحسن قليلاً إلى 1.5% في العام المقبل، ما يعكس هشاشة الاقتصاد غير النفطي.
ثامنا: توقع الصندوق أن يقفز الدين الحكومي إلى 62.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2026، بعد أن ظل مستقراً عند 47.2% في 2024 و2025.
هشاشة الاعتماد على النفط
من جانبه، قال الباحث بالشأن الاقتصادي، احمد عبد ربه، ان "تقرير صندوق النقد الدولي يؤشر تحديات هيكلية آخذة في التراكم على الاقتصاد العراقي، خاصة مع التباطؤ الحاد المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بنسبة 2.3%، وهو أول انكماش اقتصادي منذ سنوات، ما يعكس هشاشة النمو المعتمد على صادرات النفط وظروف السوق العالمية.
واضاف، انه "رغم التوقعات بتحسّن النمو في 2025 و2026، أجد انه أقل بالنسبة للزيادة السكانية السنوية، مما يعني أن النمو الاقتصادي الحقيقي للفرد سيبقى راكدا أو سلبيا، إذا ما أُخذنا ارتفاع نسب الفقر (23%) وضعف الإنتاجية في الاعتبار".
ورأى الباحث الاقتصادي، ان "تراجع الاحتياطيات الأجنبية بمعدل يقارب 21 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، يشير إلى أن الاقتصاد العراقي يواجه ضغوطًا مزدوجة: "ضغوط خارجية تتمثل في تراجع أسعار النفط أو انخفاض صادراته؛ ضغوط داخلية تتمثل في ارتفاع الإنفاق التشغيلي وعدم تنويع مصادر الإيراد؛ كما ان ثبات سعر الصرف الرسمي للدينار في ظل انكماش اقتصادي وتقلص احتياطيات، يعني أن السياسة النقدية للبنك المركزي تراهن على الحفاظ على استقرار العملة مقابل ضغوط متزايدة، وهذا قد لا يكون مستدامًا دون دعم مالي خارجي أو إصلاحات هيكلية".
إصلاحات مؤسسية حقيقية
وأوضح، ان "الأمر الأكثر إثارة للقلق هو جمود الاستثمار الأجنبي المباشر (0%)، وهو مؤشر يعكس فقدان بيئة الأعمال لجاذبيتها في ظل غياب الإصلاحات المؤسسية وتفشي البيروقراطية وعدم وضوح السياسات الضريبية وضعف القضاء على الفساد".
واقترح عبد ربه، ان "تبدأ الحكومة بإعادة هيكلة الإنفاق العام وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي مع إطلاق إصلاحات مصرفية وضريبية ومؤسسية حقيقية. مع اهمية تسريع تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط".
ويخلص الى انه "من دون هذه الإجراءات، فإن ما يلوح في الأفق ليس مجرد عجز مالي، بل حلقة ضعف اقتصادي ممتدة قد تؤثر على استقرار العملة والسلم الاجتماعي والنمو طويل الأمد".
يتصاعد الجدل السياسي والقانوني في العراق بشأن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله مع الكويت، بعدما أبطلت المحكمة الاتحادية العليا جزءاً من إجراءات تمريرها، مؤكدةً مخالفتها للمسارات الدستورية. ومع هذا التطور، انتقلت الكرة إلى ملعب مجلس النواب، الذي يواجه استحقاقاً وطنياً حساساً يتعلق بالسيادة والمصالح البحرية.
ويتوجب الآن على المؤسسة التشريعية التعامل مع الاتفاقية وفق ما ينص عليه الدستور، لا سيما أن المعاهدات الدولية التي تمس الحدود والسيادة تتطلب آليات تصويت خاصة تضمن شرعية تمريرها.
وكانت الرئاسات الثلاث، عقدت امس الاول الثلاثاء، اجتماعاً تناول موضوع اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، والتي جرى التصديق عليها من قبل مجلس النواب بموجب القانون (42) لسنة 2013، والذي قررت المحكمة الاتحادية العليا عدم دستورية نصاب تشريعه من الناحية الشكلية بموجب قرارها في الدعوى المرقمة (105/ وموحدتها 194/ اتحادية/ 2023).
واتفقت الرئاسات الثلاث على ضرورة قيام مجلس النواب بحسم الإجراء التشريعي المطلوب، وحسب قرار المحكمة الاتحادية الذي أوجب إعادة تشريع قانون التصديق على الاتفاقية أصولياً. فيما سيقوم كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء بسحب طلب العدول المقدم من كل منهما إلى المحكمة الاتحادية، وذلك لانتفاء الحاجة بعد المضي بالمسار التشريعي.
بانتظار تصويبها برلمانيا
وفي ظل التوترات الإقليمية والضغوط الخليجية والدولية، تتجه الأنظار إلى مجلس النواب باعتباره الجهة المخوّلة بالحسم، وسط دعوات لضمان التعاطي مع هذا الملف الحساس بعيداً عن الحسابات السياسية أو الإملاءات الخارجية.
وفي هذا السياق، قال الخبير في شؤون الحدود والمياه الدولية، جمال الحلبوسي، إن الاتفاقية التي أبطلتها المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 4 أيلول 2023 "لم تمر وفق الإجراءات التشريعية السليمة"، مشدداً على أن المسألة تمثل "شأناً عراقياً داخلياً بحتاً"، ويقع ضمن صلاحيات البرلمان حصراً.
وأضاف الحلبوسي، في تصريح لـ"طريق الشعب"، أن المحكمة "أبطلت الاتفاقية من الناحية التشريعية، بعد أن تبين أن التصويت الذي جرى في البرلمان آنذاك خالف الدستور، حيث تم تمرير الاتفاقية بأغلبية بسيطة (50+1)، بينما كانت تتطلب أغلبية الثلثين وفق الدستور والقرار القضائي".
وأكد أن البرلمان "سيتعامل مع هذا الملف مجدداً ضمن الأطر الدستورية"، مرجحاً أن يتم رفض الاتفاقية بالنظر إلى "ما تضمنته من أخطاء كبيرة"، وموضحاً أنها "استندت إلى بروتوكولات أمنية ملغاة وخرائط غير مُقرة بشكل رسمي من الطرفين"، وهو ما يمثل "خللاً جوهرياً في الصياغة القانونية للاتفاق".
وشدد الحلبوسي على أن "أي كتلة سياسية أو نائب يدعم تمرير الاتفاقية بصيغتها الحالية، يتحمل مسؤولية مباشرة أمام الشعب"، محذراً من أن "تمريرها قد يُعتبر خيانة وطنية وفق نظرة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني".
وفي ما يخص مواقف دول الخليج، اعتبر الحلبوسي أن "مجلس التعاون الخليجي لا علاقة له بهذا الملف"، داعياً إياه إلى "عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية". كما رفض الربط بين الاتفاقية وقضايا إقليمية مثل مضيق هرمز أو قناة السويس، مؤكداً أن "العراق لا يملك مضيقاً استراتيجياً، ولا يجب الزج به في صراعات إقليمية لا تعنيه".
واختتم الحلبوسي حديثه بالتأكيد على أن "هذا الملف شأن داخلي، ويجب التعاطي معه وفق الدستور العراقي وقرارات المحكمة الاتحادية، دون الخضوع لأي ضغوط خارجية أو حملات تضليل إعلامي".
عقبة دستورية أمام تمرير الاتفاقية
من جانبه، أكد القاضي المتقاعد والنائب السابق، وائل عبد اللطيف، أن تمرير اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله "يتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان"، وفقاً للمادة 61 من الدستور.
وقال عبد اللطيف لـ"طريق الشعب"، إن "النصاب القانوني لتمرير الاتفاقيات والمعاهدات هو ثلثا عدد النواب، أي ما لا يقل عن 220 نائباً من أصل 329، وهو ما لم يتوفر سابقاً"، مضيفاً أن ما جرى آنذاك كان "لعبة سياسية سريعة نسّقها مجلس الوزراء مع الجانب الكويتي بعيداً عن الأطر الدستورية".
وأشار إلى أن الاتفاقية "وُقعت أصلًا في الكويت، ما يعكس خللاً في التوازن السيادي"، مشدداً على أن الكرة الآن في ملعب مجلس النواب، بعد إبطال المحكمة للاتفاقية من الناحية التشريعية.
كما كشف عبد اللطيف عن وجود وثيقة برلمانية موقعة من قبل 95 نائباً يرفضون الاتفاقية، مشيراً إلى أن هذا العدد كافٍ لإجهاض أي محاولة جديدة لتمريرها.
وأردف بالقول: "إذا لم يتوفر نصاب الثلثين، فلن تمر الاتفاقية – لا اليوم ولا مستقبلاً – خصوصاً في ظل ضعف الأداء البرلماني خلال الدورة الخامسة، التي لم تحقق إنجازات تُذكر سوى تكريس الامتيازات".
وحول الضغوط الخليجية والأوروبية، أوضح عبد اللطيف أن "هناك جهات خارجية تمارس ضغوطاً واضحة على العراق، لكن القرار سيادي ويجب أن يستند إلى الدستور العراقي فقط".
وتطرق عبد اللطيف إلى الخلفية التاريخية للنزاع، قائلاً: "كل الخليج الذي يتحدثون عنه اليوم كان تابعاً لولاية البصرة. العراق يملك موانئه منذ 1933، وعندما احتلت إيران خور عبد الله عام 1983، لم يكن للكويت أي سلطة سيادية هناك، بل كانت المنطقة عراقية خالصة".
وأكد أن "التنازل عن شبر واحد من الأراضي أو المياه العراقية أمر مرفوض، والسيادة ليست خاضعة للمساومة، ويجب على البرلمان التعاطي مع هذا الملف بمسؤولية وطنية عالية".
اجتماع أمني لتأمين الملاحة
في تطور ميداني متصل، أعلنت الشركة العامة لموانئ العراق، أمس الأربعاء، عن عقد اجتماع تنسيقي موسع في مقرها بالبصرة، بحضور مدير عام الشركة، وقائد قوات حرس الحدود، وقائد القوة البحرية، والكوادر الفنية من الجهات الثلاث، لبحث آليات تأمين الممرات البحرية الحيوية، خاصة قناة خور عبد الله والمياه الإقليمية.
وقال مدير عام الشركة، فرحان الفرطوسي في بيان صحفي، إن "تأمين الملاحة في خور عبد الله لم يعد مجرد إجراء إداري، بل واجب وطني مرتبط مباشرة بسيادة العراق، وهو خطوة أساسية لتعزيز التجارة وحماية المصالح البحرية".
وأضاف، أن الاجتماع "ناقش تفاصيل تنفيذية تشمل توزيع المسؤوليات، ورفع مستوى المراقبة، وتحديث البنية التحتية الفنية، إضافة إلى وضع خطة لتسيير دوريات بحرية منتظمة، وتثبيت أنظمة رصد متقدمة، وآليات تدخل سريع في حالات الطوارئ".
واختُتم اللقاء بالتأكيد على أهمية استمرار التنسيق المشترك بين المؤسسات البحرية والأمنية، وتفعيل مراكز القيادة والسيطرة، بما يضمن حماية السيادة والمصالح الاستراتيجية للعراق في الخليج العربي.
تتفاقم أزمة المياه في العراق بشكل مقلق، في ظل انخفاض كبير في الإيرادات المائية من تركيا، وتضارب التصريحات الرسمية بين الجهات المعنية، ما أثار موجة استياء عارمة لدى أوساط شعبية وبيئية وزراعية، وسط تحذيرات من كارثة وشيكة تهدد أمن البلاد المائي والغذائي.
فرغم إعلان رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، عقب زيارة رسمية إلى تركيا مطلع تموز الجاري، عن اتفاق مع أنقرة لإطلاق 420 متراً مكعباً من المياه في الثانية باتجاه نهري دجلة والفرات، إلا أن وزارة الموارد المائية، اشارت إلى أن ما يصل فعلاً لا يتجاوز 353 متراً مكعباً في الثانية، وهو أقل بكثير من الحاجة الفعلية المقدّرة بـ600 متر مكعب يومياً.
شح مائي ووعود مؤجلة
المتحدث باسم الوزارة خالد شمال وصف الوضع المائي في البلاد بأنه "صعب ومعقد"، مشيراً إلى ارتفاع درجات الحرارة وقلة الإطلاقات من تركيا كعاملين رئيسيين في تراجع الإيرادات. وأكد أن الوزارة حصلت على وعود من أنقرة بزيادة الإطلاقات، متأملاً أن تنعكس هذه الوعود على الأرض.
وشدد شمال على أهمية ترشيد الاستهلاك ومواجهة التجاوزات، إلا أن خبراء مائيين رأوا أن الأزمة تفوق بكثير الحلول الظرفية، محذرين من أن العراق يقترب من انهيار مائي شامل.
بعد زيارة المشهداني الأخيرة إلى تركيا الأسبوع الماضي، التي أعلن فيها عن موافقة الجانب التركي على إطلاق ما يقارب الـ 420 مترًا مكعبًا في الثانية من المياه في نهري دجلة والفرات، اكدت وزارة الموارد المائية أن نسبة الإطلاقات المائية من تركيا تغطي %50 من حاجة العراق الفعلية للمياه، في إشارة الى وجود مغالطات في تصريح رئيس مجلس النواب محمود المشهداني بشأن زيادة الاطلاقات المائية.
خزين مائي ينذر بالخطر
بحسب المستشار البيئي عادل المختار، فإن سد الموصل، الذي يُعد من أكبر خزانات المياه في العراق، لا يحتوي حالياً إلا على مليار متر مكعب قابل للاستخدام، بينما يحتجز مليارين آخرين كخزين ميت، ما يعني إمكانية نفاد المياه فيه خلال أسابيع.
وأشار إلى أن مجموع الخزين المائي في البلاد حالياً يقل عن 9 مليارات متر مكعب (3 مليارات في الفرات و5 إلى 5.5 في دجلة)، وهي أرقام وصفها بأنها "مرعبة" عند استبعاد المخزون غير القابل للاستغلال.
المختار حمّل الحكومة والوزارة المسؤولية الكاملة، مشيراً إلى أن العراق فقد في عامين فقط أكثر من نصف خزينه المائي الذي بلغ 21 مليار متر مكعب، بسبب قرارات غير مدروسة، مثل التوسع في زراعة الشلب والحنطة دون توفر المياه الكافية.
وأثار تضارب التصريحات بين رئاسة مجلس النواب ووزارة الموارد المائية تساؤلات كثيرة حول شفافية الحكومة في إدارة الملف المائي. ففي الوقت الذي يؤكد فيه المكتب الإعلامي للمشهداني أن تركيا بدأت فعلاً بإطلاق الدفعات الإضافية المتفق عليها، تصر الوزارة على أن ذلك لم يتحقق بعد.
ويقول الوزير عون ذياب، إن الاتفاق مع تركيا يتضمن إطلاق 420 مترًا مكعبًا في الثانية لشهري تموز وآب، لكن الواقع يشير إلى ورود كميات أقل بكثير، محذراً من أن هذا الفارق سيؤثر بشدة على الخطة الزراعية والمياه الصالحة للشرب.
تهديد مباشر للأمن الغذائي
من جانبه، أكد رئيس لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، فالح الخزعلي، أن تركيا لم تلتزم بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بتقاسم المياه، متهماً إياها بممارسة "حرب حقيقية" ضد العراق عبر ملف المياه.
وقال الخزعلي في بيان، إن "أي زيادة في الإطلاقات المائية من تركيا لم تتحقق حتى الآن"، لافتاً إلى أن "ما يصل من نهري دجلة والفرات لا يتجاوز 350 متراً مكعباً في الثانية، في وقت يحتاج فيه العراق إلى ما لا يقل عن 800 متر مكعب في الثانية لتأمين متطلباته الزراعية والبيئية".
وأشار إلى أن "ما يصل من تركيا لا يغطي حتى نصف الحاجة الفعلية، ما يمثل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي في العراق"، مؤكداً أن "انعكاسات هذا النقص أثرت بشكل كبير على نوعية وكمية المياه في شط العرب".
بدوره، أكد الخبير المائي تحسين الموسوي أن العراق يواجه أسوأ أزمة مائية في تاريخه، مشيراً إلى أن أكثر من 8 مليارات متر مكعب تُفقد سنوياً بسبب التبخر وحده في فصل الصيف، ما يجعل الخزين المتبقي غير كافٍ حتى للاستخدام المنزلي في بعض المحافظات.
وأشار الموسوي إلى أن البصرة تواجه كارثة حقيقية، حيث أصبحت تعتمد على صهاريج المياه، وهو "مشهد خطير ومؤلم"، بحسب وصفه، محذراً من "موت تدريجي" بدأ بالفعل بفقدان الخطط الزراعية وتنوع البيئة، وظهور موجات هجرة داخلية واسعة من الريف إلى المدن.
كما اعتبر أن الإطلاقات التركية الأخيرة، وإن تحققت، لا تمثل حلاً بل "تسكيناً مؤقتاً"، ولا يمكن البناء عليها لمواجهة أزمة شاملة في ظل انعدام التخطيط وغياب الإدارة الرشيدة.
مفاوضات بلا نتائج
وفي ظل غياب اتفاقات دائمة وملزمة مع دول المنبع، وعلى رأسها تركيا وإيران، تبقى أزمة المياه في العراق رهينة الأزمات السياسية والتقلبات المناخية.
الباحث في الشأن البيئي خالد سليمان شدد على ضرورة توقيع اتفاقية دائمة بين العراق وتركيا تضمن حصة مائية عادلة وثابتة للعراق، بعيداً عن الحلول الظرفية.
وقال سليمان، إن الإطلاقات المؤقتة ليست إلا "عطاءات مشروطة"، موضحاً أن استمرار غياب الاتفاقات الرسمية سيقود إلى صراعات داخلية، خاصة مع تصاعد النزاعات بين المحافظات والعشائر بسبب تقاسم المياه.
وأشار إلى أن أكثر من 120 ألف شخص نزحوا من قراهم في السنوات الأخيرة بسبب الجفاف، ما زاد الضغط على المدن التي تعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية، ما ينذر بانفجار اجتماعي.
أما المتخصص في شؤون المياه، ظافر عبد الله، فقد قال إن المفاوضات مع تركيا وإيران بشأن تقاسم المياه استمرت لأكثر من خمسين عاماً دون نتائج ملموسة، بسبب غياب الإرادة السياسية داخل العراق من جهة، واستغلال دول الجوار لأوضاع العراق الأمنية والسياسية من جهة أخرى.
وأشار عبد الله إلى أن العراق لم ينجح في تحويل ملف المياه إلى قضية سيادية، وأن سوء الإدارة الداخلية أسهم في إضعاف موقف البلاد التفاوضي، مطالباً بوضع خطة وطنية موحدة تُلزم جميع المحافظات والمؤسسات بحماية الموارد المائية وتوظيفها بشكل رشيد.
تدهور الزراعة وغياب التقنيات
فيما كشف مستشار وزارة الزراعة مهدي القيسي عن أن الخطة الزراعية للعام الحالي مهددة بشكل جدي، بفعل انخفاض الخزين المائي وغياب التقنيات الحديثة، وتفاقم التجاوزات في المحافظات الجنوبية.
وقال القيسي إن الموسم الحالي يُصنف ضمن "الخطر الشديد"، وأن المساحات المزروعة ستُقلص بشكل كبير. كما أشار إلى أن وزارة الزراعة دعمت أنظمة الري الحديثة خلال العامين الماضيين، لكنها لم تُطبق بشكل واسع بسبب ضعف الالتزام، ما يزيد من استنزاف المياه.
وحذّر القيسي من أن محافظة البصرة تواجه تهديدًا مباشرًا في مياه الشرب، في ظل تراجع النوعية وزيادة نسبة التلوث، مؤكدًا أن الحل الوحيد هو إبرام اتفاقات ملزمة مع دول الجوار لتحديد الحصص المائية سنويًا، بما يضمن استقرار الزراعة والأمن الغذائي.
وفي ظل هذه التطورات، تبقى أزمة المياه في العراق مرشحة للتصاعد، لا سيما مع استمرار التضارب بين التصريحات الرسمية، وغياب رؤية استراتيجية واضحة لإدارة المياه.
وبينما يرى الخبراء أن الأزمة تأتي بفعل الجفاف وتراجع الإطلاقات من دول الجوار، وفشل داخلي مزمن في إدارة الموارد، فإن التحدي الأكبر اليوم يكمن في إيقاف هذا النزف قبل أن يتحول إلى أزمة لا رجعة منها.
أثار تصنيف عدد من الجامعات العراقية ضمن ما يُعرف بـ"المؤشر الأحمر" في النزاهة الأكاديمية، جدلاً واسعاً بين اوساط تعليمية وإعلامية، وسط تضارب المعلومات حول طبيعة هذا التصنيف ومصداقيته.
ورغم التشكيك بموثوقية التصنيف المتداول، إلا أن الجدل الذي أثاره "المقال الأكاديمي" فتح الباب واسعاً للحديث عن التحديات التي تواجه قطاع التعليم العالي في العراق، والمتعلقة بضعف البنية البحثية، وانتشار حالات البحوث المفبركة، وغياب المعايير الحقيقية في النشر والترقية.
التعليم العالي توضح..
المتحدث باسم وزارة التعليم العالي، حيدر العبودي، نفى بشكل قاطع وجود أي تصنيف رسمي من جهة دولية معترف بها يضع الجامعات العراقية ضمن "قائمة حمراء"، موضحاً أن المقالة التي جرى تداولها على نطاق واسع "لم تصدر عن مؤسسة تصنيفية دولية، ولا تستند إلى معايير علمية معتمدة".
وأكد العبودي في تصريح تابعته "طريق الشعب"، أن "الوزارة لم تُشكل أي لجنة متابعة بشأن هذا الموضوع، لأنه ببساطة لا يمثل أي جهة اعتماد أكاديمية رسمية".
وأشار إلى أن الجامعات العراقية تمتلك رصيدًا معتمدًا وموثقًا في منصات النشر العالمية، ولديها شراكات علمية فاعلة، وأن ما يُنشر من اتهامات غير مدعومة بالحقائق يُسهم في الإساءة المجانية إلى التعليم العالي.
فلاح المشعل يستدرك..
من جانبه، قدّم الكاتب والصحفي فلاح المشعل توضيحًا لما نشره سابقًا بشأن التصنيف، مؤكدًا أنه "اعتمد على ما بدا له حينها مصادر أكاديمية موثوقة"، إلا أنه تواصل مع شخصيات أكاديمية من بريطانيا وأمريكا، وكشفت له أن ما يُسمى بـ"مؤشر المنطقة الحمراء" ليس سوى ورقة رأي أعدها اكاديمي يشتغل في الجامعة الأمريكية في بيروت.
وقال المشعل في توضيحه، ان "المؤشر الذي بُني عليه المقال غير رسمي، ولا يحمل صفة تصنيفية دولية، كما أن بعض المؤشرات المستخدمة مثل عدد البحوث المسحوبة لا تكفي لبناء حكم شامل أو لتوجيه اتهامات منهجية إلى الجامعات".
واردف بالقول: "هناك مشاكل في منظومة التعليم العالي، وبعض الممارسات غير المقبولة، لكن لا يمكن بناء حملة تشويه ضد مؤسساتنا الأكاديمية، في وقت ما زالت تستقطب أكثر من ألفي طالب عربي وأجنبي، وهذا مؤشر مهم على جودة التعليم فيها".
ورغم أن المقال المتداول لا يُعد تصنيفًا رسميًا، إلا أنه أثار اهتمامًا شعبيًا وأكاديميًا متزايدًا بضرورة إصلاح بيئة التعليم العالي، وتطوير منظومة البحث العلمي، وتحصينها من الممارسات السلبية.
تحصين البيئة الأكاديمية
وقال أستاذ العلوم السياسية الدكتور عامر حسن فياض في حديث مع "طريق الشعب" إن أي بلد يُقاس تقدمه من خلال ثلاث قلاع مركزية: بيت الإيمان، وبيت العلم، وبيت العدالة، وإن انهيار إحداها يعني أن الدولة في مأزق تنموي حقيقي.
وشدد فياض على أن الإصلاح الحقيقي للجامعات لا يكون عبر حملات تشهير إعلامي، بل من خلال تحصين البيئة الأكاديمية، وضمان استقلال الجامعات، وإبعادها عن المحاصصة والضغوط السياسية.
نتيجة متوقعة
من جهته، قال سكرتير اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق، أيوب عبد الحسين، إن تصنيف الجامعات العراقية ضمن المؤشرات الحمراء والخطر العالي في النزاهة الأكاديمية، سوى صحّ ذلك أم لا، لم يكن مفاجئاً، بل هو نتيجة طبيعية لانهيار متراكم في بيئة البحث العلمي وغياب أسس الحوكمة الجامعية الرصينة.
وأضاف ان أثارة الموضوع لم يُفاجئ كل من يراقب المشهد التعليمي العراقي عن كثب. نحن لا نتحدث هنا عن أزمة طارئة أو استثنائية، انما عن نتيجة طبيعية ومتوقعة لغياب منظومات الضبط الأكاديمي داخل الجامعات العراقية، وسوء إدارة العملية البحثية، بدءًا من مرحلة اختيار موضوعات الرسائل والأطاريح، وانتهاءً بطريقة النشر والتقييم وما ترافق العملية".
وتابع عبد الحسين في حديث مع "طريق الشعب"، أن الخلل في التعليم العالي ليس طارئاً أو سلوكياً محصوراً ببعض الأفراد، بل اصبح بنيويا وهيكليا، بسبب عدم وجود منظومات مؤسسية فاعلة لضمان النزاهة الأكاديمية في الجامعات العراقية، سواء من حيث فحص أصالة البحوث باستخدام أدوات معتمدة دوليًا، أو عبر لجان متخصصة قادرة على التقييم المستقل".
وزاد قائلا ان هناك تركيزا مفرطا على الكم في النشر لأغراض الترقية الأكاديمية، حتى وإن كان ذلك عبر مجلات ضعيفة أو محذوفة من قواعد البيانات العالمية، ما أفقد النشر العلمي معناه، اضافة للتواطؤ غير المعلن في غض النظر عن المخالفات، سواء من قبل بعض أعضاء الهيئة التدريسية أو الإدارات الجامعية، وهو ما جعل الانحراف عن المعايير الأكاديمية أمراً مألوفاً بل ومقبولاً.
وأشار عبد الحسين إلى أن "بيع البحوث الجاهزة، وكتابة الرسائل الأكاديمية في المكاتب التجارية، لم يعد استثناءً، بل تحول إلى سوق موازٍ للتعليم الرسمي"، موضحًا أن بعض الأساتذة المتقاعدين أو المتفرغين باتوا يعملون بشكل شبه علني على إنجاز هذه البحوث مقابل مبالغ مالية.
وأكد أن معالجة هذا التدهور تتطلب ما هو أكبر من بيانات الاستنكار أو “خطط الإصلاح الشكلية”، داعياً إلى ربط النزاهة البحثية بسياسات جامعية صارمة تشمل التقييم المستقل للرسائل والأطاريح، ومراجعة الترقيات العلمية، وإعادة النظر في الشهادات الممنوحة خلال السنوات الأخيرة في ظل ظروف وصفها غير رصينة.